IMLebanon

رائحة النظام المهترئ

في الشكل هي أزمة نفايات، وفي المضمون هي أزمة حُكم ودولة ونظام. بعد ربع قرنٍ من انتهاء الحرب، وعودة الدولة والدخول في جمهورية «الطائف».

يَكتشف اللبنانيون أنّهم ما زالوا يعانون من أزماتٍ تمَّ تجاوزُها في أكثر الدوَل فقراً، وأنّ كلّ ما جرى صرفُه من أموال حتى الآن، لم يؤدِّ إلى حلّ جذريّ لمشكلة واحدة من مشكلات البلد.

على صفحتها في الـ«فايس بوك»، نشرَت فتاةٌ تعيش في أوروبا صورةً بدَت للوهلة الأولى أنّها قصرٌ لأحد نبَلاء فيينا في القرن السابع عشر. لنكتشفَ بعد قراءة تعقيبها، أنّ القصر الماثلَ في الصورة ليس سوى معمل «معالجة النفايات» في النمسا، الموجود في قلب العاصمة والذي يغذّي فيينا بالكهرباء والماء الساخن مجّانا، هذا بالإضافة إلى أنّ الانبعاثات التي تخرج منه هي أقلّ مِن تلك المحتملة في أيّ معمل عاديّ لإنتاج الكهرباء.

ألم يكن في وسعِ اللبنانيين العمل على حلّ جذريّ لأزمة الكهرباء؟ لا نريد «قصراً للنفايات» على غرار النمسا وألمانيا وغيرهما من الدوَل الأوروبية. لم يصل اللبنانيون بعد إلى هذا المستوى من الترَف، ولكن ألم يكونوا قادرين على بناء معمل للنفايات يحلّ الأزمة ويساعد في حلّ أزمات أخرى كأزمة الكهرباء؟

منطقياً تستطيع أيّ دولة في العالم بناءَ معمل أو أكثر لمعالجة نفاياتها. ولبنان ليس قاصراً ولا تنقصه القدرات والخبرات، وهنالك مئات الدراسات الجاهزة لبناء وتشغيل أكثر من معمل ومصنع قادر على حلّ المشكلة جذرياً.

ما ينقص لبنان هو القرار، ومغادرة منطق النفعية والتكسُّب من المال العام. وما ينقصه أيضاً هو رجال دولة يغادرون الذهنية الفاسدة التي حَكمتنا منذ العام 1992. هذه الذهنية التي تركت كلَّ مرفق عام عرضةً للاهتراء والتلاشي والسَرقة والنهب والفساد، ذهنية الربح السريع والإثراء السريع وعرض البَلد للبيع الرخيص.

يحقّ للّبنانيين أن يسألوا، وقد تجاوزَ حجم الدين العام عتبةَ الـ 60 مليار دولار، أين أموالهم وأموال الدولة، وكيف صُرفت هذه الأموال؟

تعايَشوا مع فكرة عدم وجود الكهرباء، والمياه. تعايَشوا مع الغَلاء الفاحش في كلّ شيء، مع فاتورة الطبابة والدواء الأغلى في المنطقة، مع فاتورة التعليم الفاحشة، مع الطرُق المحفَّرة والأوتوسترادات المرَقّعة، مع أغلى فاتورة هاتف خَلوي في الإقليم ونصف الكرة الأرضية، مع خدمة إنترنت سيّئة جداً.

لم يَرفعوا أصواتَهم. لم يسألوا أين ذهبَت أموالهم؟ مَن سرَقها ولماذا لم يسرق بعضَها ويترك البعضَ الآخر للمشاريع العامة؟ على ماذا كان يتّكل؟ ولماذا لا يكترث؟

الأرجح أنّ اللبنانيين يستحقّون ما يحصل لبَلدهم. أخَذهم الانقسام والاصطفاف نحو العَمى. وصار السارق يتّكِل على انقسامهم وتَلهّيهم بكلّ قضايا الكون إلّا أن يكون لهم بلدٌ محترَم وحديث ونظيف. والفاسد أيضاً، يغطّي فسادَه بالمذهب والطائفة، حيث لا أحد يَجرؤ ولا أحد يحاسب.

في كلّ بلدان العالم ثمَّة انقسامات سياسية حادّة أيضاً. وهذا لا يَعفي الشعب من المحاسبة، ولا يَعفي المسؤولين من المسؤولية. لماذا لا يتناقض الانقسام السياسي مع أفضل أنواع الخدمات في كلّ دوَل العالم إلّا لبنان؟

بَعد ربعِ قرنٍ من «السِلم الأهلي»، جاءت أزمة النفايات لتكشفَ هذا النظام بكامله. ولتضعَ اللبنانيين أمام حقيقتهم وحقيقة بلدِهم. الطائفية لا تصنَع وطناً، والطائفيّون هم الأكثر فساداً في مجتمعنا، وبات على اللبنانيين العمل للخروج من هذه الكذبة الكبرى.

إذا كانوا يريدون بلداً لأبنائهم وللأجيال القادمة، إذا توَفّرَت لديهم الرغبة في بقاء لبنان عليهم أن يحاسِبوا، وأن يَخرجوا مِن بوتقةِ السكوت القاتل، والانتفاض على كلّ هذا الواقع، فقد تعفَّنَ هذا النظام والرائحةُ أزكمَت الأنوفَ ولم يَعُد أمامهم سوى دفنه.