بَس كنّا صغار، كنت اعتقد أنّ جميع الأمّهات متخصّصات في الفنون القتالية وأصول الرماية، وذلك بناءً على ما كنت أختبره شخصياً من خبيط ولبيط في المنزل وما كان يعيشه رفاقي في الحيّ والمدرسة من تربية «داعسية» (مع التشديد على السين).
فأقلّ واحد فينا كان يستذوق في الأسبوع الواحد ما لا يقلّ عن 35 كفّ ولبطة و4 أو 5 قشاطات جلد أصلية وشحّاطات من المسافة البعيدة والمتوسطة، فضلاً عن قضبان الرمّان والخيزران وأدوات التربية التي كانت دارجة على إيامنا.
قبل بلوغي سنّ السادسة عشرة، لا أذكر أنّني سمعت كلمة «مظبوط»/ «معك حقّ»/ «تكرم عينك»/ «فيك تروح»/ «إي»/ «متل ما بدّك»… وكلّ ما كنّا نسمعه كان مصطلحات سلبية تدمّر مشاريعنا وأحلامنا الصغيرة ومشاويرنا، بخلاف تام وكلّي مع نظام التربية العصري والساري في هذه الأيام الذي يُعَدّ بمثابة جنّة النعيم لأولاد جيلنا.
كلمة «لا» ليست موجودة في قاموس الأطفال اليوم، وهم حرفياً لا يعرفون معنى الملل أو الجوع أو العطش، ولا يتوقعون أصلاً أن لا يحصلوا
على الأشياء التي يريدونها، فالأهل اليوم باتوا مبرمجين وبشكل عجائبي على تلبية طلبات أولادهم دون تأخير، ويتسلّحون بكلمة «نعم» في كلّ المناسبات. عندما يجوع الولد هناك مطعم «فاست فود»، وعندما يعطش هناك «ماركت» في كلّ محطّة بنزين أو «آلة بيع»، وعندما يزهق هناك التلفون والكومبيوتر والـ«أيفون» والـ«أيباد» والأي شيء حتى يسكت ويترك أهله بسلام.
وإذا قمنا بمقارنة طفولتنا بما يعيشه الأولاد في هذا العصر، فسنبدو نحن كمجموعة من العبيد الذين انتقلوا من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ على باخرة التربية التابعة لسلالة الآباء والأمهات بيدهم قضيب.
الطفل اليوم يحكم أهله ويتحكّم بالعالم الذي يعيش فيه، فكلّما اجتمعت امرأتان أو أكثر تسمعهنّ يتحدّثن عن أنّ ولد هذه «لا يحب الخضروات»، وولد تلك «لا يأكل غير البيتزا» والثالثة «تقبر قلبي بنتي كتير معلّقة بصاحِبا بصفّ الساتيام»، والأخرى ما أتقَل دمّا «إبني عندو 3 أيباد»… ونحن أمّهاتُنا كنَّ يتناقشن في ما إذا كانت عصا الغسيل أفضل من نبريش الغاز في إيصال المعلومة إلى مخَيخ الطفل بعد تمريرها في قصبته الهوائية.
أصبح العالم الذي يعيش فيه الأطفال اصطناعياً لدرجة أنّه لم يعُد هناك أوقات للملل أبداً، وهناك فيضٌ من التسلية المصطنعة الموجودة عند كلّ مفرق وفي كلّ مناسبة، وهناك حتى استعداد ضمنيّ عند الأهل للتواصل عبر المواقع مع الغرباء وليس عبر الفم والعين مع الأبناء، وهناك استفحال في حشو حياة أولادهم باللهو مثلما يحشون وقتَهم بالعمل، وبات الفريقان يعيشان في عالمين متباعدين ليس فيه ما يكفي من التواصل والمشاركة في المهام المنزلية والأحاديث العائلية… أنا كان يلحقني الدور بالغسيل والشطف والجلي مرتين بالأسبوع كنوع من النشاط الاجتماعي، وحوالي 5 وعظات تربوية وأخلاقية… إي بشرفي الولد اليوم ما بيعرف وين سلّة الغسيل ولا حتى شو الهدف من جرن المجلى في البيت، ويمكن نسي صوت والده.
إنّ اعتمادنا على التكنولوجيا لتكون «جليسة» أطفالنا (Baby Sitter) سيُدفّعنا الثمن غالياً في المستقبل، عندما تصبح حياتهم الواقعية وأيامهم المدرسية مملّة مقارنةً بالعالم الافتراضي الذي يعيشون فيه ويتحكّمون بتفاصيله.
واستجابتُنا السريعة لطلبات أولادنا تجعلهم سعداء الآن ولكن تُعساء على المدى الطويل، ولا بدّ أن نتشجّع على تأجيل إرضائهم حتى يتمكّنوا من مواجهة الضغوط في المستقبل، لأنّهم باتوا غيرَ مسلّحين بتاتاً بالصبر المطلوب لمواجهة أبسطِ ضغوط الحياة، فحتى كلمة «لا» على قرن بوظة يمكن أن تُدخلهم في حالة جنونية لا تُحمد الجرصة المترتّبة عليها.
أولادنا اليوم لا يحصلون على التدريب اللازم لأدمغتهم حتى يتمكّنوا من مواجهة الحياة بمصاعبها ومطبّاتها وخيباتها، ونحن المسؤولون عن هذا التقصير المميت في امتناعنا عن إجبارهم على القيام ببعض الأمور، وعن رفض طلباتهم، وعن تعليمهم الصبر والاجتهاد والخسارة والرفض، حتى ندرّب عقولهم للعمل بشكل صحيح على الصعيد النفسي والاجتماعي والأكاديمي.
أساليب التربية التي اعتمدها أهلنا عذّبتنا وأبكتنا ولكنّها تركت فينا أسلحةً لمواجهة هذا العالم المريض، ولا أحد يريد الأذى لولده أو لأيّ طفل في العالم، لكن نحن بقِلّة أساليبنا التربوية سنعدم أولادنا بهواتفنا الذكية ونوستالجيا عاطفتنا اليتيمة من كلّ تواصُل.