IMLebanon

“فَلتر عليها تنجلي”… شعار قاتل في زمن الكورونا

 

 

المعسّل مؤونة الحجْر والأراكيل أونلاين

 

من صادف مروره على أوتوستراد الكرنتينا في النقطة المواجهة للفوروم دو بيروت عشية الإقفال العام لا شك تفاجأ بزحمة السير في المكان وكثرة السيارات التي تحاول ان تركن على الرصيف. لا سوبر ماركت هنا يبيع بالرخص ولا مركز توزيع مساعدات مجانية يبرر الزحمة، لكن القصة وما فيها أن الناس يتزاحمون للتمون بالمعسّل قبل الإقفال، من محل الأراكيل الكبير الموجود هناك. صناديق تخرج من المكان وتنتقل الى صناديق السيارات لتصطف جنباً الى جنب مع مؤونة الحجر.

 

المنظر مغرٍ يدفعنا دفعاً الى استكشاف ما في داخل هذا المحل من كنوز تنادي اللبنانيين وتدفعهم لينفقوا ما تبقى في جيوبهم، قبل الحجر الصحي، على أكثر ما يمكن ان يضر بصحتهم أثناءه. على الباب سيدة تعيد التأكد مما اشترته من نكهات علها غفلت عن واحدة منها، وأخرى أبعد بخطوات تتصل بزوجها لتسأله إن كان من الأفضل إضافة ثلاثة كروزات أخرى لربما تم تجديد الإقفال او تعميم منع التجول… احدهم اشترى صندوقين كاملين، فمن يعرف؟ ربما انقطع المعسل كما انقطعت الأدوية او النسكافيه…ووضعهما في السيارة مع عبارة “التدخين يقتل” ملاصقة للزجاج…

 

لكل امرئ أركيلته

 

داخل محل الأراكيل أشبه بمغارة علي بابا، يبدو exotic جداً لمن هم خارج عالم الأراكيل. نحاسيات وزجاجيات ونباريش ملونة ورؤوس فخارية وأشكال غريبة عجيبة تتخطى المألوف في تصميم الأراكيل. إنها مملكة الأراكيل بكل ما للكلمة من معنى، من الصغيرة العادية التي لا يتجاوز سعرها 35000 ليرة الى تلك المصنوعة من أفضل أنواع النحاس والتي تصل قيمتها الى 1300000 ليرة وما بينهما من اشكال تقليدية او avant gardiste. كل الأذواق والميزانيات تجد هنا ما يرضيها، حتى الذين ما زالوا يحنون الى ايام الحرب الأهلية وميليشيات الأزقة يمكن ان يجدوا أركيلة على شكل كلاشنيكوف فيما مناصرو الأحزاب الحالية يجدون أراكيلهم بألوان أحزابهم. أما جماعة الـ”سنوب” فأركيلتهم لا تشبه أركيلة المقاهي والأحياء الشعبية بل هي من الزنك الأسود المحفور بأشكال هندسية مبتكرة تكاد تشعر معها أنك أمام قطعة غريبة سقطت من الفضاء… الاسعار تختلف باختلاف المواد التي تصنع منها الأركيلة وتوابعها. فالزجاج الوطني بسعر والمستورد من بلجيكا وإيطاليا بسعر أعلى أما الكريستال وهو الأرقى فيحلق معه السعر الى حدود المليون. اما القلب فمن القصدير او النحاس بعيارات مختلفة يختلف معها السعر. ناهيك بالأكسسوارات على أنواعها من النباريش الى الرؤوس والصواني والشعالات والمباسم ومتممات الأركيلة.

 

تصطف الأراكيل على الرفوف فتملأ مساحة المحل الواسعة وترفع رأسها بشموخ وكأنها تنظر الى الزبائن من علِ. فهم تحت رحمتها ينتظرونها ولا تنتظرهم، ومع كل زبون ضائع هناك عشرة غيره. المحل ينغل بالموظفين (معظمهم من غير الجنسية اللبنانية) يكاد عددهم يوازي عدد الزبائن، يعرفون نكهات التنباك واسعارها غيباً، من النعناع الى “الكابوتشينو” ومن التفاح الى المانغو وكل ما يخطر بالبال من نكهات غريبة، ويثقون ببضائعهم حتى ان شعارهم “ضمانة الطعم أو كفالة الترجيع”.

 

نسأل أحد الموظفين عن مصدر هذه النكهات الغربية فيقول إنها كلها مستوردة من مصر او دبي أو إيران، أما كيف يتم تسعيرها وبما تختلف عن المعسّل اللبناني فيجيبنا السيد يحيا المسؤول عن المحل أن كل الشركات تستورد عبر الريجي ولا شيء يصل من الخارج مباشرة الى محلات الجملة، والريجي هي التي تسعّر وتلزم المحلات بتسعيرتها ويتراوح السعر بين 45000 و 60000، لكن حالياً لا وجود لسعر ثابت بل يختلف من يوم الى آخر، والمخزون قد خف ولا بضائع في السوق…

 

نسأله أيضاً عن عجقة الشغل بعد ما رأيناه في المحل من زحمة فيتأفف ويتحسر على أيام ماضية كان الشغل فيها نار. يقول”اليوم تراجع المبيع بحدود 70 الى 80% بغياب المطاعم والمقاهي وتراجع قدرة الناس الشرائية. نحن نتكل على المبيع بالجملة للمؤسسات الترفيهية والمطاعم ومحلات بيع الأراكيل الصغيرة وهذه القطاعات كلها تعاني من الأزمة الاقتصادية وأزمة كورونا. كذلك تراجع المبيع بالمفرق فمن كان يصرف علبة معسل في اليوم تراجع مصروفه الى نصف او ربع علبة ومن كان يغيّر أركيلته كل موسم بات اليوم يحتفظ بها”. نسأل عن محلات الأراكيل الصغيرة في المناطق والشوارع تلك التي توزع ديليفري على المنازل هل تحتاج الى رخصة او تسجيل والجواب المفاجئ أنها لا تحتاج الى أي منهما وبالتالي لا تدفع اية ضرائب للدولة، لكنها قد تحتاج الى موافقة البلدية وقد يكون ثمة رسوم تدفع لهذه الأخيرة. لكن في اتصال مع بلدية الفنار تأكدنا أنه لا بد ان تكون هذه المحلات مسجلة وأن تنال رخصة من المحافظ وأن تدفع الضرائب المالية المتوجبة عليها كما تدفع رسوماً سنوية للبلدية. كذلك والأهم يجب ان تنال موافقة البلدية بالنسبة للموقع فلا يكون في بناية سكنية ويشكل أي إزعاج للساكنين.

 

أراكيل أونلاين

 

إذا كان محل يحيى من اشهر محلات الأراكيل في لبنان وأكثرها فروعاً او تحويراً لاسمه فثمة من ينافسه اونلاين والقصة هنا مختلفة وأكثر طرافة بكثير. فصفحة الشمالي للأراكيل على فيسبوك لديها أكثر من 100000 متابع وهو رقم لم تصله مؤسسات ثقافية كثيرة وتعرّف الصفحة عن نفسها بأنها أكبر متجر إلكتروني للأراكيل في لبنان وهي صفحة ناشطة جداً ولديها تفاعل يومي مع الزبائن.

 

” كل عام وكل مؤرغلي العالم بخير” هكذا عايدت الصفحة زبائنها بالسنة الجديدة بعد أن حملت شعار “جمال الأراكيل مكتوب بحبر تصاميمنا” وتمنت لهم بعدها “حجراً سعيداً ودوام الصحة”… الاشعار والرديات التي يبادل فيها الزبائن أراكيلهم يمكن ان تجمع في ديوان يحمل عنوان “فلتر عليها تنجلي”… الصفحة هذه تخطت الحدود المحلية فهي تؤمن وصول الأراكيل الى كل أنحاء العالم كما تؤمن خدمة الديليفري الى كل لبنان.

 

هنا تشكيلة الأراكيل وأكسسواراتها عالم قائم بحد ذاته والأكسسوارات تضاهي الأراكيل تفنناً وتنوعاً. النباريش أنواع وفئات منها من الأكريليك او السيليكون ومنها من جلد الغنم الطبيعي او الحرير وحتى من الفراء لمن يحب الفرو… أما قبضتها فمستويات: قبضة القرش البني خصيصاً للتفاحتين، والقبضة الحلزونية لنبريش جلد الغنم أما قبضة المكعبات او القرش الأسود فلها أربابها… وللرؤوس نوعيتها كرؤوس البشر، فهناك الرأس الكبير والرأس اليابس والرأس المرن والمصري واللبناني…

 

والى أجزاء الأركيلة الاساسية، تضاف المتممات الخارجية التي تعتبر فناً قائماً بحد ذاته ولها اسعارها التي تنافس اسعار الأراكيل. عربة خشبية صغيرة، “بفخر صنع في لبنان”، تشكل قاعدة عملية للتنقل بالأركيلة في أرجاء البيت مع منقل خشبي assorti او حقيبة جلدية ملونة تصلح للمشاوير وتتسع لحمل الأركيلة المفككة في التنقلات وللسفر.

 

ولأن للسلامة متطلباتها فهناك فلتر لتصفية رأس الأركيلة ورأس شاربها ويحمل اسم “شيشيا سايف” وهو جديد في الأسواق ومثله كاتم الصوت الذي يتيح أرغلة صامتة تريح الحاضرين. أما إشعال الفحم فبات له جهاز خاص يعمل بالكهرباء لتكون الأركيلة جاهزة اينما كان وفي اي وقت كان… باندا شيشة، الربابة، الإسبانية وعشتروت تبدو وكأنها اسماء من عصر مضى لأحصنة في سباق الخيل ولكنها في عصر اليوم اسماء لأراكيل متنوعة التصاميم والمصادر تشهد زمن عزها أونلاين وعلى أرض الواقع.

 

أراكيل تتحايل على الحجر

 

على الرغم من الحجر والإقفال العام وحظر الأراكيل في الأماكن العامة، لا تزال أركيلة الحاج ( كما الكثير سواها) تؤمن وصول الأراكيل الى المنازل والتجمعات، وشباب الديليفري يعرفون كل الزواريب الجانبية التي تسمح لهم بالوصول من دون ان يعترضهم حاجز لقوى الأمن أو دورية للبلدية. المحل من الخارج مقفل وملتزم بقرار وزارة الداخلية وتوصيات وزارة الصحة لكن خدمة التوصيل مؤمنة ومعها خدمة الكورونا. فالمؤرغلون لم يقتنعوا بعد رغم التحذيرات بخطر الأركيلة على زيادة حدة المضاعفات التي تنشأ عند المدخنين إثر الإصابة بكوفيد-19. وكان رئيس الجامعة الأميركية فضلو خوري ومجموعة كبيرة من الأطباء والباحثين والجمعيات الأهلية والطبية والصحية قد وجهوا الى الحكومة والوزارات المعنية كتاباً مفتوحاً قدموا فيه وبناء على دراسات علمية الأدلة التي تؤكد وجوب منع الأركيلة في الأماكن العامة نظراً لانعكاساتها السلبية الشديدة على صحة المواطنين خلال جائحة كورونا.

 

ومما جاء في الكتاب أن الدراسات المستقلة ذات الجودة العالية أثبتت أن التدخين على أنواعه يزيد من خطر الإصابة بفيروس كورونا المستجدّ، من خلال تكرار حركات الإتصال بين الوجه واليدين، ومن خلال مشاركة مختلف أجزاء النرجيلة وضرب مبدأ التباعد الاجتماعي بعرض الحائط، وتدني المناعة، وزيادة الاستعداد لعدوى الجهاز التنفسي. كما وأن النرجيلة بطبيعتها تعزز بقاء الكائنات الجرثومية الحية فيها، مهما اختلفت وتشددت أساليب تنظيفها.

 

واضاف الكتاب أن الدراسات المستقلة أيضاً اثبتت أن التدخين يزيد من خطر حدوث مضاعفات شديدة بين مرضى كوفيد-19 بنسبة 1.4الى1.45 مرة ومن احتمالات ازدياد حالات كوفيد-19 بحوالى 1.73الى 2.25 مرة أكثر بين المدخنين، من غير المدخنين. كما وان لدى المدخنين خطراً أعلى بحوالى 2.4 مرة من الحاجة إلى أجهزة التنفس، والحاجة إلى العناية المركزة، أو الوفاة في حال الإصابة ولوحظ ازدياد نسبة وفيات مرضى كوفيد-19 المدخنين بحوالى 38.5% مقارنة مع مرضى كوفيد-19 غير المدخنين.

 

فهل يتعظ مدخنو الأركيلة والنرجيلة والنارغيلة والشيشة والهوكا من هذه الأرقام الجدية ام أن الحجر سيشكل مناسبة إضافية لارتفاع عدد المصابين بالكورونا في البيوت؟