IMLebanon

مخنوق… بألف ليرة!

أمس، وقفت أسوأ مدن في العالم دقيقة صمت على حياة بيروت، وقفت كلها تبكي على مدينة كانت تحسدها طوال فترة وجودها، وها هي اليوم تشفق على حالها المزري. وقفت واغادوغو، ونيودلهي، ولاغوس، ونواكشوط، وكينشاسا وبرازافيل، تلعن التاريخ والجغرافيا اللذين ابتلوها بالفقر والكوارث الطبيعية والتخلّف لمئات السنين حتى لا يحرما بيروت من شيء.

وقفت هذه المدن وتأمّلت مطوّلاً، ولم تتذكّر زلزالاً ولا موجة جليد ولا جفافاً، ولا بركاناً ولا ديناصورات ولا جراداً ولا حتى مخلوقات فضائية عدائية… وقفت، ورفعت أكتافها استغراباً، ونظرت إلى بعضها البعض من دون أن تعرف ما الذي أوصل مفتاح الشرق، وأم الشرائع، وست الدنيا، والدرّة الغالية، وسويسرا الشرق إلى مثل هذه الحال.

رفعت بيروت بصعوبة رأسها قليلاً عن مخدّتها وذكّرت هذه المدن أنّ شعوبها هم من أصحاب البشرة السمراء، وهم يعانون العنصرية العرقية والاقتصادية والسياسية والعسكرية ولكنهم يعيشون أحراراً في فقرهم… وأمّا أهلها هي الحنطيين، أهل بيروت، فقد أصبحوا عبيداً لطبقة حاكمة تحاضر بالحرية قبل أن تغتصبها، وبالإصلاح قبل أن تخرّبه، وبالبحبوحة قبل أن تنهبها، وبالأمل قبل أن تشنقه.

مع كل الفقر والمآسي التي تبتلي أسوأ مدن العالم، يبقى هناك قليل من الحياء لدى المسؤولين عن إدارة شؤون البلاد والعباد.. لكن في «نيو لبنان» كل شيء مسموح باستثناء ما يمسّ كرامة وإرث وعنفوان المتسلطنين على الكراسي بتفويض سماوي سرمدي، والباقي يضعونه على المنابر في أكياس زرقاء ويزيّنون به شطآن المتوسط، ويعطّرون به بلاد الأرز.

بس كرسي عن كرسي بتفرق.. كرسي سيارة التاكسي لا أحد يريده، لا أحد يدافع عنه، لا أحد ينجّده أو يفديه بالروح. كرسي التاكسي الذي أصبح مثل الكرسي المتحرّك لآلاف وآلاف اللبنانيين المكرسحين من البطالة، كرسي الخلاص في بلاد العجايب التي تبتلي الفقير وتنزّه الغني.

كرسي أصبح مثل كرسي الاعتراف، نسمع منه أبشع وأقسى قصصنا اليومية.. قصص لا يبقى من غلّة راويها في نهاية النهار أكثر من ثمن ربطة خبر وعلبة مالينغ. كرسي يمكن أن تصبح في لبنان حصراً بين كل دول العالم، سرير مستشفى لشوفير مخنوق من التلوّث، مخنوق من عجقة السير، مخنوق من الفقر، من القلّة، من الوجع، من المرض، من أبواب المستشفيات الضيّقة.. مخنوق من ضمان الشيخوخة، من سعر الأدوية، من وقفة الضمان، من انتظار الانتخابات..

مخنوق من الأمل، من الوعود، من الكذب، من السرقة، من الفساد، من النهب.. مخنوق من كثرة مسح الأرض بكرامته، مخنوق من كرامة ألفين ليرة، مخنوق من طبقة سياسية تعيش على شرفات الطابق العلوي ولا تدري بحال مئات آلاف الساكنين في بيت الدرج، لا تسمع أنينهم، لا تحسّ بوجعهم، ولا تعير إصبعاً مشغولاً بعدّ الدولارات من أجل فتح أنبوبة أوكسيجين لجحافل مخنوقة على السلالم المتّجهة نزولاً.

يا عمّ، صورتك موجعة جداً، نخاف فعلاً أن ننظر إليها حتى لا نصدّق أن هذا ما قد أوصلونا إليه. نخاف الاعتراف أن من يستبعدوننا بالخوف، هم ذاتهم يقتلوننا بالفساد، يدفوننا بالديون، يغتصبوننا بالوعود، يهتكون أعراضنا بالتحالفات، يذبحوننا بذكرى حروبهم وجرائمهم.. يقودون البلاد فينا إلى الهاوية ويرغموننا على التقاتل من أجل معرفة من يملك الحقّ في الجلوس إلى الشباك.

يا عمّ، نحنا مننزل هون عاليمين، بشرفي خنقتنا بشرفك.