“نداء الوطن”» تجول على معابر التهريب وترصد حركتها ومحاولات ضبطها (2)
عند سلوك الطرقات الجبلية التي تربط بين عكار ومنطقة الهرمل، لا مفر من التوقف على حواجز عسكرية إستُحدثت منذ سنوات قليلة لإعاقة عملية تهريب السيارات المسروقة والمهرّبة نحو سوريا أو البضائع في الإتجاه المعاكس. ليتبين لاحقاً لدى الوصول إلى قرى الهرمل الحدودية، أنّ تعميم استراتيجية تجهيز الحواجز المتقدمة في المناطق الحدودية بعارضات حديد، كان مقصوداً بهدف الحدّ من حركة المهربين عبر المعابر غير الشرعية في هذه القرى، وخصوصاً تلك التي تتداخل أراضيها بين لبنان وسوريا، أو تلك التي يقطنها لبنانيون بينما هي متواجدة جغرافياً ضمن الأراضي السورية.
وهكذا يتحوّل كل حاجز عسكري في هذه القرى معبراً حدودياً، يدقق في هويات الداخلين والخارجين، ولا يُسمح بعبوره سوى لسكان هذه القرى أو ضيوفهم، وبالتالي يمنع سلوك الحافلات والشاحنات المحملة بالبضائع في الإتجاهين.
ومع ذلك لا يمكن القول إنّ هذه الإجراءات كافية وحدها لشل حركة المعابر غير الشرعية في هذه المنطقة. وليس ذلك فقط بسبب إتساع رقعة إمتدادها على مسافة 36 كلم تبدأ في منطقة المشرفة شرقاً وتنتهي في حوش السيد علي – مطربا – والقصر غرباً، وإنما لكون هذه المعابر في منطقة الهرمل، هي أيضاً ابنة بيئتها. والبيئة التي نتحدث عنها هنا، ذاع صيت بعض ناسها بإرتكابات العصابات التي امتهنت شتى أنواع المخالفات والجرائم، من الخطف والإتجار بالبشر، إلى سرقة السيارات، والإتجار بالمخدرات، وحتى القتل والإعتداء على الجيش أحياناً. وبالتالي فإنّ هذه المعابر غير الشرعية هي البوابة التي كانت توصل «الطفار» وارتكاباتهم إلى بر الأمان على الطرف السوري من الحدود.
أوتوستراد بعرض 36 كيلومتراً
لدى التوقف قليلاً عند طول مسافة التهريب الأبرز في هذه المنطقة بالمقابل، تظهر الـ36 كيلومتراً التي تفصل بين المشرفة وحوش السيد علي، كـ»أوتوستراد» واسع بعرض 36 كيلومتراً، كل متر منه مشرع على الطرف السوري من الحدود.
في حين تبدو الأمور أكثر إنضباطاً على المعابر المنتشرة في منطقة عرسال، والتي تشكل طبيعتها الجغرافية الجبلية، والمساحات الطويلة المتعرجة التي يتطلب سلوكها جهداً أكبر من المهربين، بالإضافة إلى الحضور العسكري «الشرعي» الواسع في هذه المنطقة منذ معركة فجر الجرود، عوامل إيجابية لمصلحة فوج الحدود الثاني الذي ينتشر في هذه الناحية من المناطق الحدودية أيضاً. وهذا ما ساهم في تراجع التهريب إلى حد كبير عبر معابر عرسال غير الشرعية. حتى لو لم تتوقف محاولات المهربين في إيجاد منافذ جديدة كلما تم ضبط أحد منافذهم.
معابر أكثر خطورة
أما الوظيفة الأخطر لهذه المعابر فتتركز في منطقة المشرفة – حوش السيد علي – مطربة – القصر. فالجزء الأكبر من المعابر غير الشرعية في هذه الناحية من الحدود، ينتشر في منطقة راس بعلبك – الهرمل. علماً أنّ إجمالي عدد هذه المعابر يبلغ نحو 26 معبراً، ساهم تواجد 17 منها داخل الأراضي اللبنانية بتفكيك بنيتها التحتية، والتي كانت تتضمن عند معابر الهرمل تحديداً، «قبابين» لقياس أوزان الحمولات المهربة، وجسوراً تسهل حركة الإنتقال حتى بالنسبة للشاحنات الكبيرة، فيتقاضي المهربون المسيطرون عليها رسوم سلوكها، بحيث يكرر البعض عند إستفحال «تجارة الحدود» عبارة «نيال من إلو معبر بالهرمل».
ومن ضمن الإجراءات التي اتخذت عسكرياً تجاه هذه المعابر كان هدم الجسور غير الشرعية التي بنيت فوق سواقي المياه والتي كانت تساعدها على الإلتفاف على حواجز الجيش المستحدثة في المنطقة. لتبقى هناك 9 معابر أخرى تسيطر عليها عصابات تهريب لبنانية – سورية، ولكنها تقع داخل الأراضي السورية ويبدو تعطيل دورها أكثر صعوبة.
طبيعة المناطق
ولمعرفة وظيفة هذه المعابر نتوقف عند طبيعة هذه المنطقة الحدودية، والتي تقسم إلى قسمين: منطقة المشرفة التي تتميّز بأنها سهليّة واسعة، تضم بقعة مُتنازع عليها، تكثر فيها الطرق الزراعيّة التي تخرق الحدود والتي يستخدمها المزارعون لتصريف محاصيلهم في أراضيهم الواقعة خارج الحدود أو داخل المناطق المُتنازع عليها. وغرب بلدة حوش السيد علي التي تضم بلدة القصر ومطربة، وهي منطقة سكنية واسعة تتميّز بأنّها مُتداخلة جغرافيّاً، حيث يقطنها لبنانيّون لديهم أيضاً مزارع وحقول داخل الأراضي السورية ويقومون بتصريف إنتاجهم إلى داخل الأراضي اللبنانيّة.
إتخذ التهريب على قسمي هذه المنطقة الحدودية طابعاً «عصابتياً» بمعظم أوجهه، يتخطى محاولات التهريب الفردية «الطبيعية» لأهالي البلدات الحدودية عموماً.
ففي بلدة المشرفة المحاذية لمشاريع القاع مثلاً هدم الجيش قبل فترة منازل كانت تستخدم كوكر للتهريب، ومن ثم ألقي القبض على أحد أبرز المهربين بتهمة التعدي على الجيش، فيما قتل مهرب آخر داخل الأراضي السورية، فتراجعت حركة التهريب إلى حد بعيد في هذه المنطقة.
إلا أنه على رغم كون حدود هذه المنطقة مرسمة بواسطة سواتر ترابية تفصل بين الأراضي اللبنانية والأراضي السورية، فإنّ التداخل في الأراضي لا يزال يسمح بنشاط حركة تهريب الأشخاص عبرها، خصوصاً أنّ الأراضي الزراعية في هذه المنطقة مرتبطة ببعضها البعض داخلياً عبر ما يعرف بمنطقة مشاريع القاع. وهي منطقة إجتاحها النازحون السوريون الذين كانوا يعملون في حقولها سابقاً، وأقاموا فيها مخيماتهم بمحاذاة الحدود مباشرة، ليتحول بعضها وكراً لتمرير البضائع وتهريب الأشخاص. والسلوك نحو منطقة المشاريع الآهلة بالسكان من المناطق الجردية، متاح بواسطة سيارات رباعيّة الدفع أو شاحنات صغيرة. وبمجرّد دخولها الأراضي اللبنانيّة يمكنها إعتماد مسالك داخليّة تؤدّي إلى الأعماق اللبنانيّة.
لا دخول خلسة في الهرمل ولكن…
في المقابل فإنّ حركة عبور الأشخاص تكاد تكون معدومة في القسم الثاني من منطقة التهريب المحددة في الهرمل، والتي تمتد غرب حوش السيد علي. ولذلك إرتباط أولاً بالبيئة الطائفية والسياسية التي لا تخلق جواً مؤاتياً، خصوصاً أنّ المناطق اللبنانية هنا مشرعة على البلدات السورية التي أظهرت عدائية للنظام السوري في الفترة السابقة. علماً أنّ الأمن العام اللبناني إستحدث مركزاً حدودياً شرعياً في هذه المنطقة لعبور الأشخاص، وهذا المعبر شكّل متنفساً لسكان القرى المحاذية لهذه الناحية من الهرمل، وبالتالي لم يعد هؤلاء يلجأون إلى المعابر غير الشرعية التي كانوا يقصدونها لاختزال مسافات الإنتقال إلى معبر جوسيه الشرعي في القاع.
وهذا ما جعل نشاط المعابر غير الشرعية في هذا الجزء من الهرمل ينحصر بتهريب البضائع على المستوى التجاري. لتشكل أيضاً منافذ آمنة لطفار منطقة بعلبك، ولعصاباتها التي احتمت بالطرف السوري من الحدود، وخصوصاً في الفترة الأخيرة عندما إشتد التضييق العسكري لمنع إرتكابات هذه العصابات في الداخل اللبناني. علماً أنّ هذه المعابر شكّلت مسالك سهلة للسيارات المسروقة، ولعمليات تهريب المخدرات والممنوعات وعمليات الخطف، وآخرها خطف المواطن السعودي مشاري المطيري في الاسبوع الماضي، والذي توجهت الأنظار فوراً في عملية تحريره إلى المناطق الحدودية في الهرمل.
من لا يعرف طبيعة الأرض هنا، يعتقد أنّ الجيش السوري لا يزال موجوداً في لبنان. بينما هو في الواقع يتمركز على الحد الفاصل بين الأراضي المتداخلة. وعليه يكفي أن تتوقف شاحنة محملة بالبضائع عند حاجز عسكري للفرقة الرابعة لتفرغ حمولتها على قارعة مزرعة أو منزل تقع على الحد الفاصل، لتنتهي عملية التهريب بنجاح. ولا يبدي عناصر حاجز الجيش السوري هنا أي إعتراض على ذلك وهو ما يبعث إطمئناناً لدى المهربين لتنفيذ المهمة، في مقابل مسارعتهم للفرار عند رؤية دورية أو كمين للجيش اللبناني في المكان.
خصوصية حزبية أيضاً
إلا أنّ هذه لا تختصر الخصوصية التي تتمتع بها معابر حوش السيد علي. حتى لو اختزلت الخروقات الحدودية فيها ضمن مساحة صغيرة تتمدد على شكل إصبع داخل الأراضي السورية. فمفعول الإصبع الصغير هنا يبدو كبيراً جداً، وخصوصاً عندما نعود بالذاكرة إلى الخلف قليلاً، لنحو سنتين تقريباً، عندما لعب أحد المعابر غير الشرعية في هذه البلدة، دوراً كبيراً في إنتقال «قوافل فك الحصار»، وهي التسمية التي أطلقها الأمين العام لـ»حزب الله» حسن نصرالله على صهاريج المازوت الإيراني التي عبرت من منطقة حوش السيد علي إلى الأراضي اللبنانية من دون حسيب أو رقيب.
في محاولة إستطلاع حول هذا المعبر تحديداً، يتبين أنّه موجود ككيان مستقل عن سائر المعابر الأخرى الموجودة في البلدة، ومتفلّت من شتى المعوقات الجغرافية والأمنية. يبدأ وينتهي في الأراضي اللبنانية بمركز حزبيّ لا يعرف أحد شيئاً عن نشاطه، إلا أن البعض يقرنه لوجستيا بالأفواج العسكرية التي شاركت في معارك القصير، وأيضاً بشبكة أمان إجتماعية، من خلال تأمين الدواء السوري وبيعه عبر قنوات خاصة.
وعليه فإنّه على رغم الشهرة البارزة التي تتمتع بها معابر جعفر، ناصر الدين، والهق في هذه المنطقة، والتي أعطيت عمليات التهريب عبرها أبعاداً سياسية، فهي لا يمكن أن توازي بأدوارها الدور الذي يلعبه معبر حوش السيد علي. بل يشكل الأخير ذريعة كافية لتمرد سائر القيمين على المعابر الأخرى على الإجراءت الشرعية المتخذة تجاهها، سواء أكانت هذه المعابر في منطقة الهرمل أو في مناطق لبنانية أخرى.
كيف يمكن ضبط الحدود؟
طريق مغادرة منطقة الهرمل نحو نواحي المعابر غير الشرعية المتبقية بين الشمال والبقاع، كانت محملة بالنسبة لنا بتساؤلات حول فعالية الإجراءات العسكرية في الحدّ من عمليات التهريب بهذه المنطقة، من دون تغليب منطق الدولة على الدويلة. فالتفوق الذي تمارسه قوى الأمر الواقع في شتى ممارساتها المرتبطة بهذه المعابر، لا تختزل في الهرمل. فعلى بعد كيلومترات من إجراءات عسكرية مشددة تتخذ في وادي عنجر الذي سيشكل وجهتنا الثالثة في تقرير يوم غدٍ الجمعة، يتبيّن أّن هناك من شق طريقاً متفلتاً من كل الإجراءات بمنطقة جرود قوسايا، تربط بين جنتا اللبنانية والزبداني السورية. هذا بالإضافة إلى النفوذ المتحكّم بالمعابر غير الشرعية في قرى قضاء بعلبك من بريتال إلى الطفيل وغيرهما، فضلاً عن السيطرة على المناطق الحدودية في النبي شيت وحام ومعربون وغيرها، وهي كلها مناطق تخلو من الحضور الشرعي. فنقع في جهل تام حول طبيعة المعابر غير الشرعية في هذه المناطق.
ومع ذلك أكملنا جولتنا إلى حيث هو متاح، أي منطقة وادي عنجر الصويري وصولاً إلى دير العشائر وحلوى، حيث تبدو صورة الحدود وضبطها أكثر إشراقاً والتفاصيل في تقرير جديد ينشر غداً.
معابر “الدعم: …عبر ساقية
تشكّل بلدتا حوش السيد علي والقصر الحدوديتان النموذجين الأكثر تعبيراً عن واقع المعابر التي يصعب ضبطها في هذه المنطقة. فلا يمكن التمييز بين الأراضي اللبنانية والأراضي السورية هنا، إلا من خلال ساقية المياه التي أقام عليها سكان منطقة حوش السيد علي مثلاً جسوراً فردية تنقلهم من سوريا إلى لبنان عبر منازلهم. وهذه الجسور الفردية ليست هي المقصودة بمعابر التهريب، وإنما تلك الجسور الأضخم التي أمنت قبل سنتين فقط إنسياب شاحنات وصهاريج المازوت والبضائع اللبنانية المدعومة، ولعبت دوراً في دعم الإقتصاد السوري خلال أولى مراحل تطبيق قانون قيصر، بتسهيل وتواطؤ من الفرقة الرابعة في الجيش السوري، التي لا تزال تؤمن حالياً ظروف إلتفاف المهربين على الإجراءات الرادعة للتهريب.
تهريب الشوكولا والسكاكر
فيما اللافت، إستخدام هذه المعابر لتهريب البضائع «الفاخرة» التي تتوجه إلى الطبقة المخملية في سوريا، من أنواع الشوكولا والسكاكر والأدوات الكهربائية الأوروبية، والتي نشط تهريبها خصوصاً إثر فرض «قانون قيصر» على النظام السوري. هذا بالإضافة إلى ما شكلته هذه المعابر من منافذ للعبور غير الشرعي للأشخاص، خصوصا أنّ البيئة السياسية في هذه المنطقة كانت مؤاتية للقادمين من الطرف الثاني من الحدود.
وإنطلاقاً من هنا تبدو إستخدامات معابر عرسال غير الشرعية تجارية أكثر، وترتبط بالعرض والطلب، وبحاجة الأسواق السورية خصوصاً. وعليه فحركتها تزدهر وتتراجع قياساً إلى هذه الحاجات، لتنمو خصوصاً في الفترات التي تسبق الأعياد والمواسم، عندما تتزايد الطلبات على المواد والمنتجات التي لا تتخلى عنها الطبقة الميسورة في سوريا.