الغطاء الثلجي يتقلّص في سبعة مراكز تزلّج عالمية
يضمّ لبنان ستة منتجعات تحتضن رياضة التزلّج، لا يبعد أقصاها عن العاصمة بيروت سوى عشرات الكيلومترات لذلك شكّلت مقصداً للسياح من مختلف دول العالم، ولاستجمام المواطنين. يزورها 5000 شخص يومياً. وفي لبنان، أكثر من خمسمئة لاعب مسجّل في الاتحاد الدولي للتزلج من جميع الفئات العمرية، ينضوون في 28 نادياً. فماذا لو فُقد الكنز الأبيض من الأرض؟
«يُظهر الغطاء الثلجي خسائرَ كبيرة في مساحاته. ثم إن الثلوج باتت تأتي في وقت مبكر وتختفي أسرع… على المدى القصير ستصبح العواصف أكثر حدّة، لكنَّ الثلوج ستتحوَّل الى أمطار مع ارتفاع درجات الحرارة العالمية». هذا ما ذكرته دراسة بعنوان «اتجاهات وجود الثلوج في نصف الكرة الشمالي»، نُشرت على موقع American Meteorological Society» في 19 حزيران 2023، وتعتمد الدراسة على بيانات مدوّنة بين العامين 1967 و2021.
كما يُتوقّع أن يتقلّص الغطاء الثلجي بشكل واضح في سبعة مراكز تزلّج رئيسية في العالم (في استراليا والأميركيتين وأوروبا وشرق آسيا) بين العامين 2071 و2100، مما سيضطر القيّمين على هذه المراكز الى التدخّل الاصطناعي لإبقاء بعض المسارات قيد العمل، إن كان من حيث تعديل أماكن المسارات، أو من خلال رفدها بثلوج اصطناعية. بالموازاة ستعاني مناطق عديدة حول العالم، كانت مواقع أساسية لتكدّس الثلوج، من نقص حاد في كمياته نتيجة انخفاض عدد أيام التساقط وارتفاع درجات الحرارة. هذا ما خَلُصت إليه دراسة أخرى تسلط الضوء على مصير الغطاء الثلجي حول العالم، أشرفت عليها الباحثة الألمانية «فيرونيكا ميتروفالنر»، ونشرت في مجلة PLOS one في 13 آذار 2024.
لكن «العلاقة بين الثلوج وتغير المناخ بقيت معقدة جداً، وقد اجتهد العلماء لسنوات عديدة لتوضيح العلاقة بين الاثنين. أما جوهر المشكلة فكان في صعوبة قياس تساقط الثلوج بدقّة، لأن البيانات المستمدة من الراصدات الأرضية، والأقمار الاصطناعية، والنماذج المناخية، قد أعطت إشارات متناقضة حول الدور الذي يلعبه تغيّر المناخ في انخفاض الكتل الثلجية، وقد شهدت بعض المناطق الأكثر دفئاً زيادة في كمية الثلوج. لكن الدراسة التي نشرها باحثون من كلية دارتموث (في الأسبوع الأول من كانون الثاني 2024) حسمت الجدل وأكدت أن تغيّر المناخ تسبب في تراجع كبير في الثلوج على مستوى العالم منذ ثمانينات القرن الماضي، وصل الى نسبة تتراوح بين 10% و 20% كل عقد». وفقاً لمقال نشرته وكالة CNN على موقعها الألكتروني في 10 كانون الثاني 2024، للكاتبة «راشيل راميريز».
ليُجمع العلماء والباحثون من جديد على التنبيه من خطورة مستقبل الأرض، إذا استمرّ النشاط السكّاني كما هو عليه، من حيث نمط المعيشة الذي يعتمد على الوقود بشكل رئيسيّ، إن كان في الصناعة أو الزراعة أو النقل أو التنقّل أو التدفئة أو التبريد، وما يسببه من انبعاثات دفيئة.
وهنا لا بدّ من الإشارة الى أن بداية تسجيل المعلومات العالمية المفصّلة، المرتبطة بدرجات الحرارة تعود الى العالم الى العام 1859، أي بعد انطلاق الثورة الصناعية بعقدين، أو أقلّ، وفق المؤرّخ البريطاني «إيريك هوبسباوم» الذي يعتبر أن انتشارها حول العالم بدأ منذ ثلاثينات القرن الماضي.
أما أقدم السجلات لبيانات درجات الحرارة، هي بيانات درجات الحرارة في إنكلترا الوسطى، التي انطلق التدوين فيها منذ العام 1659. وهو هامش زمنيّ واسع يتيح للعلماء مراقبة التغيّر بدقّة ووضوح.
الطبيعة أو البشر؟
«السبب هو الاحتباس الحراري»، تقول الدكتورة نجاة صليبا لـ»نداء الوطن». وهي من بين «تسع نساء يقدنَ مهمة مكافحة تغيير المناخ في لبنان»، وفق الموقع الرسمي للأمم المتحدة. لتعود وتشرح كيف ظهر ذلك الاحتباس الحراري: «بعد اجتياح الثورة الصناعية للعالم بأسره، ازدادت الانبعاثات التي تحتوي على الغازات الدفيئة، مثل ثاني أوكسيد الكربون والميثان والهيدروكربون، وأخذت تحتلّ الغشاء الهوائي للأرض. ففي حين كان يجب أن يبقى ثاني أوكسيد الكربون تحت معدّل 400 ppm، أي أقل من أربعمئة جزيئة من أصل مليون، أخذ يتمدد على حساب الأوكسيجن والنيتروجين اللذين كانا يشكلان 80% من الغازات المنتشرة في الجوّ.
وكون الانبعاثات هي غازات دفيئة، تمتص أشعة الشمس خلال النهار وتطلقها ليلاً الى الأرض، فأصبحت تشكّل شبه غلاف يمنع الأرض من أن تبرد ليلاً بشكل طبيعيّ، لا بل تزيدها دفئاً. فبات سكانها كأنهم في غرفة زجاجيّة كبيرة».
وتضيف: «إن إنتاج هذه الغازات كان أكبر من إمكانية معالجتها أو التخلّص منها بميكانيكيّة الطبيعة، فتكدّست تباعاً على مرّ سنوات، وأصبحت عبئاً ثقيل النتائج على البيئة. وقد توصلنا الى طبيعة لا تشبه الطبيعة التي نعرفها اليوم، إذ ننتظر تحولات جذرية ستطال جميع البيئات على مدى السنوات القادمة».
نتائج كارثية
بحسب الدراسة المنشورة في مجلة PLOS one والمذكورة أعلاه، «ستكون النتائج مثيرة للقلق بالنسبة للقيمة الترفيهية والاقتصادية للتزلج، كذلك بالنسبة للتنوع البيولوجي الجبلي، فإن أنواعاً عديدة من المخلوقات ستكون معرضة لخطر الانقراض بسبب التدخّل البشري في مناطق التزلج».
كما «سيؤدي الاحتباس الحراري العالمي الى تباطؤ طفيف في دوران الأرض، مما يؤثّر على كيفية قياسنا للوقت»، وفق مقال لإيفان بوش في وكالة NBC، نُشر في 27 آذار 2024.
وبحسب تحليل الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي NOAA (الولايات المتحدة الأميركية): «إنحسار الثلوج يمكن أن يكون له تأثير سلبي على الغذاء والماء لمليارات الأشخاص». (مقال نشر على موقع CNN في 25 آذار 2023).
هل للبنان حصة من الخطر؟
تضيف د. صليبا: «لن تكون جبالنا بمنأى عن الخطر المتمثل بنقص كمية الثلوج، فهذا خطر عالميّ لا يمكن تفاديه إلا بتغيير سلوك الشعوب حول العالم، وانخفاض نسبة الثلوج على الجبال سوف يؤثر بشكل مباشر على المياه الجوفية، وبالتالي، على الطبيعة ككلّ. فالآن بتنا نشهد ظاهرة جديدة لم تكن موجودة من قبل، وهي اشتداد ملوحة المياه الجوفية على الساحل اللبناني، مما يشير الى تراجع في المياه الجوفية النقية. لكن إذا بدأنا بالحفاظ على محيطنا البيئيّ قد نتأثر أقلّ».
وفي إطار التغيّرات الملموسة التي بات يشهدها لبنان، يقول مختار كفرذبيان وسيم مهنا لـ»نداء الوطن»، إن كل سنة تقصُر فترة تساقط الثلوج أكثر، فبحسب ذاكرته، كان تساقط الثلج يبدأ من شهر تشرين الثاني، ويستمرّ حتى شهر آذار على ارتفاع 1200 متر عن سطح البحر. وكان يبلغ معدّل التراكم على هذا الارتفاع متراً واحداً. أما خلال السنوات العشر الأخيرة، فبات يتأخر تساقطه حتى نهاية كانون الثاني، مما أدّى الى انخفاض في معدّل التراكم بشكل واضح. وبالأخصّ هذا العام، فقد كان أكثر ندرة للثلوج، بحيث لم يسجّل أي تراكم يُذكر على ارتفاع 1200 متر. علماً أن منطقة كفرذبيان العقارية تبدأ من ارتفاع 625 متراً وتنتهي بارتفاع 2500 متر عن سطح البحر.
أما على الصعيد الرياضي، فيقول رئيس الاتحاد اللبناني للتزلج والبياتلون، فريدي كيروز، لـ»نداء الوطن» إن تراكم الثلوج هذا العام، في مراكز التزلج (أي التي تعلو عن 1800 متر)، كان أفضل من العام الماضي. ففي حين تم افتتاح موسم العام الفائت في منتصف شهر شباط، افتُتِح هذا العام في العاشر من كانون الثاني.
الاتجاهان المتعاكسان في مستوى تراكم الثلوج (حيث يجب أن يكون التراكم تصاعدياً) بين المناطق الشديدة الارتفاع (أكثر من 1800) والمتوسطة (حتى 1200 متر)، في بيئة جبلية واحدة، يظهران تطرّفاً معاكساً مقلقاً في درجات الحرارة.
ذاكرة تخالف الدراسات
في خضمّ هذه التحذيرات المقلقة من علماء المناخ والبيئة، تتربّع الذاكرة اللبنانية على عرش وثير من الإيمان الممتزج بالتفاؤل، «ليس على الله أمر مستحيل».
إستشهد المختار مهنّا بالقول المبارك، وتابع معتذراً من جميع العلماء والباحثين. فالذاكرة الشعبية في كفرذبيان، كما في كل لبنان، ما زالت تحتفظ بمحطات تاريخية يرويها الأجداد للأحفاد، فيقول: «يطلق أهالي القرى اللبنانية، والموارنة خصوصاً، تسمية «ثلاث قلانيس»، على ثلاثة أعياد مباركة، وهي أعياد: مار أنطونيوس الكبير في 17 كانون الثاني، ومار افرام في 28 كانون الثاني، ومارمارون في 9 شباط. ووفق المعتقد الشعبي المتوارث، لا بدّ للثلج من أن يتساقط في هذه الأيام الثلاثة».
ثم يروي، أن في أحد السنوات القديمة الماضية لم يرَ لبنان الثلج حتى منتصف شهر كانون الثاني، وكان عيد مار أنطونيوس الكبير بعد ذلك، فتوجه أهالي البلدة الى الكنيسة لحضور القدّاس، وكان الطقس صافياً. لدى خروجهم فوجئوا بالثلج قد أقفل الدروب والطرقات.
ويتابع: «هناك مقولة متوارثة، أن الطبيعة تجدّد نفسها. فبحسب أخبار الأجداد، كانت تمرّ مثل تلك السنوات قبل البدء بتدوين درجات الحرارة العالميّة. لا شكّ أن رحمة الله أوسع من عبث البشر بالطبيعة».
كلام فريدي كيروز عن حقيقة ما يحصل في العالم، على الأقل حتى الآن، لا ينفي كلام المختار مهنّا، إذ يقول كيروز: «لاحظنا خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة مداورة كثافة الثلوج بين منطقة وأخرى حول العالم، بحيث يكثر في منطقة ويندر في أخرى، ليعود في السنة التالية ويتراكم في الأولى بينما يشحّ في غيرها. فخلال هذه السنة عانت دول البلقان من انخفاض في كمية الثلوج، وتم إلغاء العديد من بطولات التزلج فيها. لكنها تراكمت بكثافة في أوروبا الوسطى، وقد يتبدّل المشهد في العام المقبل». ليعود ويؤكد أن «الاتحاد لم يلاحظ أي تغيّر مقلق في أي منطقة في العالم حتى الآن».
تقول د. صليبا: «مطلوب منّا في لبنان الحفاظ على «تراب البلد»، تماماً مثلما كان أجدادنا يقولون، ولهذا القول مدىً أوسع من المعنى، فإذا لم نحمِ تراب لبنان من التلوث سيكون مصيرنا التصحّر، فنقاء الماء والهواء مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بسلامة التراب. أما على الصعيد العالمي، فالمشكلة يلزمها حلول كبرى».