الرئيس سعد الحريري يدعو العالم، من منصة الإليزيه في باريس، إلى تدمير «داعش» بالكامل.
الرئيس سعد الحريري، بعد ساعات من دعوته، يستثني المقاومة، ويعتبر أن «حزب الله» يتعمد الخروج على الإجماع الوطني ويستدرج الجيش والقوى العسكرية الرسمية «إلى مهمات قتالية وأمنية، تحددها غرف العمليات التابعة له»، مستنكراً إصرار الحزب على سلوك خيارات «عشوائية أو محسوبة على أجندات خارجية»، ما يفسد «الجهود الوطنية في مكافحة الإرهاب والتطرف».
كأن المطلوب من العالم فقط، ولا نعرف مَنْ هذا العالم، أن يقاتل «داعش»، باستثناء «حزب الله»، الذي يمارس القتال، ويتصدى للتكفيريين ويسقط له كوكبة من الشهداء… فأيهما يدمر «داعش»، الكلام أم القتال؟ العالم المبهم أم القوة الصريحة؟
ليس.
المسألة كلها تكمن في قراءة الواقع، لا في تدبيج إضبارات اتهام، تَفَوَّقَ الفريقان، «8 و14 آذار» في تبادلها، ووصلا إلى اعتبار سياسات كل فريق منهما من الكبائر. الاتهام بالخيانات العظمى كانت على كل شفة ولسان، وترافقت مع تصاعد الصراع الإقليمي والدولي في سوريا، وتداعياته على الانقسام اللبناني المزمن والمدمر.
ثمة حاجة إلى الإجابة عن الأسئلة التي يفرزها الواقع اللبناني والوقائع الإقليمية، بعد إعلان دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام، والاجتياحات المذهلة والتوسع الشاسع والمرامي التي تحققها الرمايات.
السؤال الأول:
هل لبنان، مكوِّن من طموحات «داعش» أم لا؟ إن استبعاد ذلك، جهل وغباء. وإن الاعتراف الضمني بذلك وعدم الإفصاح عنه، يعتبران فصلاً من مسلسل الكمائن اللبنانية. بحيث يؤكد الاعتراف ضرورة تبني سياسة تترجم ميدانياً، وضرورة الاستعداد الجدي، لا اللفظي، لقتال «داعش»، هنا وهناك وهنالك، إذا لزم الأمر.
السؤال الثاني: إذا كان لبنان في عين «داعش»، كما هي «عين العرب» في المناطق الكردية، فإنه من الطبيعي أن يكون البحث عن الوسائل والقوى والأسلحة والتحالفات، التي تفرض على اللبنانيين أن يتحملوا مسؤولية إنجازها، كي لا يكون لبنان، أو بعضه، «عين العرب». فأي قوى تستطيع أن تدافع عن لبنان الدولة، وعن اللبنانيين؟
الجيش اللبناني، بما لديه وبما هو عليه، بالكاد يستطيع الدفاع عن مواقعه. أثبتت «غزوة عرسال»، أن هذا أفضل ما لديه. خسائره جسيمة. معاركه مراوحة. عرسال أسيرة. المعابر بين البلدة والجرد ليست كلها مقفلة. وفي نهاية شهرين وتسعة أيام، العسكريون أسرى ومهددون بالقتل والذبح، ويتوقف عدم تنفيذ أحكام «الشرع» بقطع الرؤوس، على إبقاء الطرقات مقطوعة، بحراسة الأهل المفجوعين والراغبين بعودة أبنائهم سالمين، مهما كان الثمن. والأثمان ليست قليلة، ومجرد التلويح بدفعها، كسب لـ«داعش» وللإرهاب.
الجيش اللبناني وحده غير قادر، فمن يدافع عن اللبنانيين، الآن في شمال البقاع، وغداً في عكار، وبعده في قرى الجنوب المتاخمة للقنيطرة والجولان، ومن بعد ذلك… الطوفان؟
إذًا من؟
في الواقع، قوة حزبية مسلحة ومدربة ومتفوقة في المقاومة، أثبتت جدارتها وفعاليتها في تحرير لبنان ومقاومة العدو الإسرائيلي، ومساعدة الجيش السوري في استعادة عدد من البلدات في القلمون وسواها، وليس باستطاعة عدو أن ينكر هذه القوة، أو لا يحسب لها حساباً. لذلك، ومهما كان الموقف السائد لدى فريق يعارض سلاح «حزب الله» ويطالب بنزعه أو إخضاعه لأمرة الدولة والسلطة (ولا دولة ولا سلطة موحدة في لبنان)، ويعتبر تدخله في سوريا دعماً لنظام يعاديه نصف الشعب اللبناني تقريباً، فليس من خيار أمام هؤلاء، غير رسم خريطة طريق وطنية، تجعل من المقاومة الجاهزة والقادرة والمشتبكة مع «النصرة» و«داعش»، في طليعة المدافعين عن لبنان، ويقتضي تأمين التغطية الوطنية والشعبية لها، لتكون إلى جانب الجيش، قوة جدية، تساهم مع العالم، في تدمير «داعش» تدميراً تاماً.
من دون ذلك… لبنان في عين «داعش»… كما «عين العرب» في سوريا. فبئس المصير.
ليس المطلوب، في لحظة الخطر الداهم والأكيد، والذي لن يوفر مخالفاً لـ«داعش»، أن تحل مشكلات لبنانية، استعصت على مجمل الطبقة السياسية، منذ سنوات. الوقت الإقليمي المشتبك غير مؤاتٍ لذلك. الصراعات الإقليمية الكبرى، الأساسية والجانبية، تمنع ذلك. القوى السياسية السيدة على المشهد السياسي، عاجزة عن تقديم أي حل لأي مشكلة حتى ولو كانت بسيطة. مجلس نواب معطل، حكومة عاجزة، رئاسة فارغة، جيش في العراء، مؤسسات معطوبة، موازنات مؤجلة، كهرباء مقطوعة، مياه نادرة، بؤس عام، هجرة مستنزفة، اقتصاد يتهاوى، باستثناء مصارف تتخم بالودائع، من دون إنتاج… هل المطلوب بناء دولة ومؤسسات وإجراء انتخابات و… لنسهل عملية توحيد القوى لمواجهة «داعش»؟
جنون مثل هذا التصور، والأسوأ، أن يكون انتهازاً.
وعليه، فإن دعوة الحريري إلى «الصحوة الوطنية» دعوة إيجابية في بعض جوانبها، عندما يرى أن أهم شروطها مشاركة الجميع فيها، وفي مقدمتهم «حزب الله». بشرط ألا تكون هذه الدعوة مشروطة، كما جاء في بيان من مكتبه الإعلامي، بعدد من الاعتبارات والقيود التي تعيد الأمور كلها إلى المربع الأول: مربع التعجيز.
لا شرط لهذه الصحوة الوطنية، غير تأمين الحد الأقصى من التضامن والتكافل والدعم، لكل من يقاتل «داعش»، وبالتحديد الوقوف إلى جانب المقاومة، التي برهنت، في تفردها، أنها تستبسل وتدافع، وتقدر في تضامن الآخرين معها، ومشاركتهم إياها بالمعارك، أن تخوض وتنتصر وتنأى بلبنان عن «عين العرب».
هذا ليس وهماً. إنها الواقعية الحادة بعينها. إنقاذ لبنان من «داعش» والمساهمة بتدميرها في لبنان، رهن الثلاثية الذهبية: جيش وشعب ومقاومة. الجيش موجود، ومطلوب دعمه وتجهيزه، والمقاومة موجودة، والمطلوب دعمها والاشتراك معها وحمايتها، ومنع التصويب على ظهرها. أما الشعب، فهو في معظمه ينتظر المصالحة الموضعية، بين سعد الحريري والسيد حسن نصر الله.
إذا كانت مقاومة إسرائيل بالسلاح فرقت اللبنانيين سابقاً، فقد تكون مقاومة «داعش» خريطة طريق للحفاظ على لبنان، والبدء في ما بعد بإيجاد حلول لمشكلات عاصية ومستعصية، عكّرت صفو الدولة وصفو اللبنانيين معاً.