IMLebanon

حتى لا يغرق المسيحيون في «البحر الهائج»

ينظر المسيحيون بعين القلق إلى الأحداث مِن حولِهم، فهم حائرون… يُفكّرون… يتساءلون… ولسانُ حالهم كيف: نحافظ على وجودنا في ظلّ الاستقطاب المذهبي الحاد بين السُنّة والشيعة في منطقة الشرق الأوسط، التي وصفَها وزير الخارجية الأميركية جون كيري بـ»البحر الهائج».

يُعبّر منسّق الأمانة العامة لقوى «14 آذار» الدكتور فارس سعيد عمّا يدور اليوم في خلد كلّ مسيحي في المنطقة، ويطلق صرخة قد تقود السفينة في خضمّ البحر الهائج الى برّ الأمان، إذا ما أدركَ الجميع أنّ «مفتاح النجاة بتشارُك التحدّيات والأثقال، فإمّا أن نغرقَ فرادةً أو ننجو معاً»، على حد تعبيره.

ويتساءل سعيد خلال ترؤسه الندوة التي نظّمها مركز «تطوير للدراسات» في مركزه في الطريق الجديدة عن مفهوم الدور المسيحي: «هل للمسيحيين اليوم مستقبل في هذه المنطقة؟».

تساؤلٌ ينطلق منه سعيد مُعرّجاً على نجاح الكنيسة المارونية بقيادة البطريرك يوسف الحويك في الدفاع عن لبنان الكبير ورفض تأسيس دولة مسيحية في العام 1920، في خضمّ التحدّيات الضخمة التي طبَعت تلك الحقبة التاريخية من إنهيار الإمبراطورية العثمانية وقيام الثورة البولشفية و»وعد بلفور»، وانتقال ألمانيا من الملكية الى الجمهورية، والانتدابين الفرنسي والبريطاني في المنطقة.

5 أحداث وقعَت ما بين 1917 و1920 وفرَضت خلالها الظروف على المسيحيين اعتماد خيار سياسي في منطقة وُضِعت على طريق التغيير، فاختاروا الدولة المدنية، مناقضين بذلك مطالبَ الصهاينة الذين ينادون بتأسيس وطن قومي لليهود في إسرائيل.

دولةٌ مدنية «لم تبنِ حائطاً مع جوارها العربي، وصمدَت في جوار يحكم بقبضة ديكاتورية»، يقول سعيد. ويضيف: «كان ينظر الى التركيبة اللبنانية برجعية، خصوصاً من سوريا والعراق، لتعود وتبرز أهمّية هذه التجربة الفريدة، أمّا التحدّي اليوم فيكمن في تطوير النظام اللبناني إنطلاقاً من إتفاق الطائف للحفاظ على خصوصية الطوائف وحقوق المواطن».

ويأمل سعيد أن تعود الكنيسة لتكون رأسَ حربة الحداثة مجدّداً، وينتقد أحزاب اليوم التي تشكّل رافعةً للحياة السياسية، والتي تستمدّ شرعيتها من الحرب الأهلية، وغياب حيوية مسيحية حزبية قادرة على مواكبة ما يحدث.

ولا يُسقِط سعيد من حساباته حقبة الوجود السوري في لبنان، حيث كان «يمنع علينا التواصل مع الفلسطينيين، حتى إنّ التواصل بين المسيحيين والمسلمين كان يمرّ حكماً عبر المسؤولين الأمنيين السوريين، لنعود عام 2004 بالتعاون مع سمير فرنجية ومحمد شمس الدين إلى صياغة «إعلان بيروت» الذي فتح النافذة والكوّة لتحقيق التواصل والحوار بين مكوّنات الشعب اللبناني، وأعقبَه طرح موضوع الحقوق الأساسية للّاجئين الفلسطنيين في أولى جلسات برلمان 2009.

أمّا اليوم، فهناك متغيّرات كبرى فرضَت نفسَها على المسرح الدولي من بلورة نظام عالميّ جديد بزعامة الولايات المتحدة، وثورة إتصالات غير مسبوقة جعلت العالمَ قرية صغيرة، إلى إنهيار النظام العربي القديم و»قيام أنظمة إستبدادية بمحاربة شعوبها بجدارة وإسرائيل بالتباس»، فضلاً عن بروز تيارت إسلامية متطرّفة، ممّا شوَّه صورة المنطقة وساهمَ في بروز تيار «الإسلاموفوبيا».

في موازة ذلك، برزَت ظاهرة «كريستينوفوبيا» بوصفِها حاضنةً للنظام العالمي المعادي لفلسطين والشعب السوري، واتّهام المسيحية كحاضنة ثقافية لعالم جديد لم يتدخّل في سوريا بعد أربع سنوات على حمّام الدم، في حين بدأ الإسلام يشكّل مكوّناً أساسياً مؤثّراً على ديموقراطيات الغرب، وباتَت معالمه تتّضح من خلال تبريد العلاقات ودخول الإسلام السياسي الى النسيج الإجتماعي الغربي».

ويتساءَل سعيد لماذا لا يتحرّك الإنتشار السوري في الخارج؟ في حرب غزّة لم يبقَ عاصمة لم تتضامن مع الشعب الفلسطيني، ففلسطين لا تزال قضية جذّابة، في حين أنّ مأساة الشعب السوري ليست كذلك.

إلى جانب ذلك، يذكّر سعيد ببروز تيار مدني تجلّى في مصر وتونس، وتقديم تركيا نفسَها نموذجاً قادراً على التعامل مع العرب والنظام العالمي، وتمدّد نفوذ إيران من اليمن إلى شط البحر المتوسط، وسعي روسيا إلى دخول المنطقة عبر بوّابة الكنيسة الأرثوذكسية ودعم الإسلام ليكون شريكها في مواجهة الغرب، ومحاولة السعودية ومجلس التعاون الخليجي الحفاظ على المصلحة العربية وتفادي تحوّل دوَلِه إلى ضواحٍ إقليمية غير عرَبية.

ويقول: «لم نكن نسمع الحديث عن الأقلّيات منذ 100 عام، في مرحلة اليسار والثورة الفلسطينية، لم نكن نسمع عن مسيحيين معذّبين. اليوم المسيحيون واليزيديون ينظرون إلى المنطقة بعين القلق.

مبدأ تحالف الأقليات طرحَه اليهودي ثيودور هرتزل، وقد سارَ عليه في السياسة حافظ الأسد. واليوم الروس والإيرانيون يبدون كأنّهم يدافعون عن الأقليات في العالم العربي».

ويبقى التحدّي الأصعب الذي أوجدَته «داعش» وتوابعها بإسقاط الحدود المرسومة بين الدوَل، وخلقها فوضى أمنية وإجتماعية بحيث أصبحت جذّابة لبعض الشباب، مستغرباً دوافعَ شبّان في مقتبل العمر في أميركا وأوروبا إلى الإلتحاق بهذه الجماعات المتطرفة.

ما الحلّ؟

إنطلاقاً من هذا التوصيف لواقع الحال اليوم، يتساءل سعيد ما هو الخيار الذي يجب على المسيحيين اعتماده؟

في البداية إنّ التردّد والتهادن ينجم عنهما مجتمعات متردّدة ومتفكّكة، والمدخل لحماية المسيحيين والأقليات في المنطقة قوامه دوَل مدنية وطنية ترتكز على نظام مرِن يحفظ حقوق الطوائف من خلال مجلس شيوخ يضمن تمثيلها. ويقول سعيد: «لا يمكن تحقيق استقرار لبنان من دون استقلال فلسطين وقيام نظام ديموقراطي في سوريا»، فهذه الثلاثية مطلوبة بقوّة.

إذ لا أحد قادر على حملِ أثقاله بمفرده، فإمّا أن نغرقَ فرادةً أو ننجوَ معاً. ويتابع: «علينا توحيد القراءة لما تشهدُه المنطقة، فالهمّ مشترَك، ولمواجهة «داعش» علينا بلورةُ تيار مدني عابر للطوائف يُراعي خصوصية كلّ دولة ويُؤسّس لدولة استقلال في فلسطين وديموقراطية في سوريا».

ويختم سعيد قائلاً: «ما تعيشه المنطقة ليس مؤامرة، و»داعش» يخيفني مثلما يخوّف المسلمين».