مرّة جديدة، يخطئ الرئيس سعد الحريري، ويتسرّع في اطلاق المواقف التي قد تكون صادرة عن نيّة طيّبة، ولكنها لا تشير الى نضج سياسي عند صاحبها، الذي يفترض فيه، ان يستقصي جيداً الأحداث وخلفياتها، قبل الحكم عليها، وخلق شرخ جديد في علاقاته مع حلفائه المسيحيين، مثلما حصل بعد اغلاق صناديق الانتخابات البلدية في بيروت، ومسار الحريري الى «تخوين» حلفائه واتهامهم بنقض الاتفاقات، وتعريض ثابتة المناصفة للخطر، واصفاً ما جرى «بالمسخرة» ولو انه «اخذ نفساً» عميقاً و«عدّ للعشرة» قبل اطلاق غضبه، المبني ربما على «معلومات» الحاشية ونصائحها، واستوضح من حلفائه الذين مشوا معه مسيرة الاستقلال الثاني، عن اسباب ما حصل في الدائرة الاولى، وسأل مديري حملته الانتخابية عن «خيانة» حصلت في الدائرة الثالثة، التي اعطت اللائحة المنافسة للائحة «البيارتة» اكثر من 17 الف صوت، وهي الدائرة التي تعتبر الخزّان الشعبي لتيار المستقبل، لكان ادرك ربما ان هناك مشكلة في كل بيروت تتجاوز ما حصل في الدائرة الاولى عليه ان يسارع الى سدّ ثغرتها بالتعاون الصادق مع حلفائه، ولكنه لم يفعل، بل ترك بتهوّره، للمصطادين في المياه العكرة، ان يزيدوا في توسيع الشرخ بينه وبين حلفائه، وفي شكل خاص بينه وبين الدكتور سمير جعجع، الذي اثبت مرة بعد اخرى، انه حريص على علاقته بسعد الحريري، مثل حرصه على انتفاضة 14 آذار.
لذلك وفي قراءة متأنيّة لخلفيات موقف عدد من الناخبين المسيحيين في الدائرة الاولى، من المفيد العودة الى تشكيل لائحة البيارتة، التي اعطى الاستفراد بتشكيلها انطباعاً بأن اللائحة معنية اولاً واخيراً ببيارتة الدائرتين الثانية والثالثة وان الدائرة الاولى هي تكملة عدد، شعبياً وترشيحاً، لأن الحزبين الأكبر عدداً والاوسع انتشاراً، حزب القوات اللبنانية وحزب التيار الوطني الحر، لم يحصلا بعد مفاوضات طويلة سوى على عضوين اثنين، من اصل 12 عضواً، وقبلا بالأمر على قاعدة حرصهما ايضاً على المناصفة وصيغة العيش المشترك، لكن ناس الدائرة الاولى، الذين عانوا من تهميش البلديات المتعاقبة وابتعاد الانماء عن مناطقهم، اضافة الى ازمة النفايات وما حكي عن فساد في البلدية السابقة، كان لهم موقف آخر، حرصوا على التعبير عنه، ولو رمزياً في صناديق الاقتراع، رغم دعوات العماد ميشال عون والدكتور جعجع لهم، بوجوب المشاركة والالتزام بلائحة البيارتة، لكن اللامبالاة التي أصابت بيارتة الدائرتين الثانية والثالثة اصابت ايضاً بيارتة الدائرة الاولى، فكان الاقبال ضعيفاً مثله مثل انتخابات العام 2010، امّا بالنسبة للارقام، فهذه قراءة موضوعية لها تثبت ان الهدف لم يكن في اي لحظة محاولة لزعزعة الزعامة البيروتية كما حاول بعض الاعلام المغرض ان يوهم الناس.
* * * *
عندما يتذيّل مرشح حزب القوات اللبنانية ايلي يحشوشي لائحة البيارتة بفارق 8 آلاف صوت بينه وبين السيدة يسرى صيداني، فهذا يعني ان الحرص على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، لم يكن بصحة جيّدة، وعندما ينال ايلي يحشوشي 6840 صوتاً من ناخبي الدائرة الاولى، فانه يكون اخذ تقريباً الرقم الذي نالته لائحة البيارتة، ويكون ناخبو الدائرة الاولى قد ساووا الجميع، علماً بأن لائحة البيارتة نالت ما معدله 6500 من الدائرة الاولى، باستثناء السيدة يسرى صيداني التي نالت 7200 صوت اي بزيادة حوالى 400 صوت عن مرشح القوات اللبنانية، فأين هي النيّة المبيّتة لمعاقبة سعد الحريري التي «طنطن» بها الاعلام المستقبلي والاعلام الذي يحاول ان يدقّ اسافين الخلاف بين الحريري وحلفائه، علماً بأن المسيحيين عموماً، ومسيحيي الدائرة الاولى خصوصا، لم يكونوا راضين عن انتخاب انصار المستقبل في زحلة، ومع ذلك، لم يرفعوا السقف ولم يخوّنوا احداً، كما حصل مع الشيخ سعد وتيّاره.
يبقى أخيراً واجب لفت الرئيس الحريري الى أمر بالغ الأهمية يتعلّق بأسلوب المخاطبة الذي يتبعه، حيث يخرج الى الاعلام مهدداً، متوعداً، محذّراً، مخوّناً، رجالات لها تاريخها الطويل في النضال والمقاومة والعمل السياسي، يلتفّ حولها مئات ألوف اللبنانيين، وهذا الأمر تكرر في اكثر من مرّة، وكان دائماً هؤلاء الرجال، يحرصون على امتصاص النقمة لديهم ولدى جماهيرهم حيال هذا التصرف، انقاذاً منهم لشعرة معاوية من الانقطاع، وصديقك في نهاية الأمر هو من صدقك وليس من صدّق الاعوان والمستشارين وأهل الغرض.