شغلت قضية باتت تُعرف اليوم بقضية زياد عيتاني وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي، ودخلت بازار الحملات الانتخابية من بابها العريض. وأصبحت هذه القضية، كما بدا أمس، مادة دسمة لتحريك العصبيات المذهبية. وعمّ شعور بين المواطنين في الأحياء الشعبية لبيروت، خصوصاً في الطريق الجديدة وقصقص والبسطة والزيدانية، بأن القيادات المذهبية هي وحدها الكفيلة والقادرة على حماية أبناء الطائفة والمذهب من ظلم البعض في مؤسسات الدولة.
إن تأثير ذلك على الانتخابات النيابية المرتقبة لجهة تفوّق تيار المستقبل على منافسيه لا يشكل بحدّ ذاته أيّ مشكلة؛ لكن المشكلة تكمن في إعادة تفعيل التجييش المذهبي الذي يسهم في تكريس تجزئة اللبنانيين على أساس انتماءاتهم الدينية.
والخطر في قضية زياد عيتاني يفوق خطر التجييش المذهبي الذي يتم تحويله إلى أداة قد تسهم في إفلات المتعاملين الحقيقيين مع العدو الإسرائيلي من الملاحقة الأمنية والقضائية. وبات اليوم بإمكان أيّ متعامل مع العدو التلطّي خلف انتماءاته المذهبية للتشكيك في أي تحقيق جنائي يستهدفه. وبات الجمهور يشكك أصلاً في أيّ تحقيق يجريه جهاز أمن الدولة الذي يتميز عن غيره من الاجهزة الأمنية بحيث إنه يتبع للمجلس الأعلى للدفاع لا لأيّ من الوزارات المعنية بالأمن والدفاع، والتي تخضع للمحاصصة الطائفية/المذهبية. وقد يتساءل البعض، لو كان جهاز أمن الدولة خاضعاً لنفس المحاصصة الطائفية/المذهبية التي كان خاضعاً لها يوم تأسيسه، فهل كان قد تم التعامل معه في قضية كقضية زياد عيتاني بنفس الطريقة؟
السؤال الأبرز يصبح هنا هل بات التحقيق في شبهة التعامل مع العدو أو في أي جريمة خطيرة يستوجب تلازم التصنيف الطائفي/المذهبي لجهاز التحقيق مع الانتماء الطائفي/المذهبي للمشتبه فيه؟ وماذا عن طائفة ومذهب القاضي المشرف على التحقيق؟ هل يستوجب النظام اللبناني المريض إشراف قاض من طائفة/مذهب محدد على تحقيقات يجريها جهاز مصنف لمصلحة نفس الطائفة/المذهب مع مشتبه فيه من نفس الطائفة/المذهب؟
لكن مهلاً، ألا يفتح ذلك المجال لتفوّق الاعتبارات والمصالح الفئوية على مصالح جميع اللبنانيين؟ وألا يمكن للبعض أن يسكت عن ارتكابات المقرّبين منه بذريعة الحاجة الى رصّ صفوف المنتمين الى الطائفة/المذهب لمواجهة الطوائف/المذاهب الأخرى؟
قد يُجمع المسؤولون السياسيون، ولو شكلياً، على رفض الاعتبارات الطائفية/المذهبية في أيّ ملاحقة أمنية/قضائية، ويكررون مقولة «رفع الغطاء» عن كل من يثبته التحقيق ضالعاً في الجريمة. لكن المطلوب اليوم لا يقتصر على مواقف وتصريحات عبر المنابر وفي وسائل الاعلام والصالونات خلال موسم الانتخابات. المطلوب من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء عقد جلسة استثنائية وطارئة لوضع آلية واضحة لرصد وتعقب وملاحقة المشتبه في تعاملهم مع العدو الإسرائيلي وتأسيس هيئة قضائية/أمنية عليا تضم قضاة وضباط جيش واستخبارات ومعلومات وأمن عام وأمن دولة وشرطة قضائية وجمارك تشرف على عمل الآلية. وتشدد الهيئة على الحفاظ على سرّية التحقيقات. فالحفاظ على السرّية هو التزام قانوني وأخلاقي لضمان حسن سير الاجراءات المطلوبة لتحقيق المحاكمات العلنية العادلة. وللمرة الألف، ربما، نكرر أن من يحدد الحقيقة ليس رتباء وضباط وقضاة التحقيق والنيابات العامة، بل المحكمة المستقلة التي تستمع الى جهة الاتهام وجهة الدفاع وتتفحص المعلومات التي يوردها الطرفان قبل إصدار حكمها. ولا بد للمحكمة أن تحترم التوازن بين المتّهَم والمتّهِم وتحافظ على المسافة نفسها بينها وبين كل منهما.
لكن بما أن مهمات القوى الأمنية والقضاء تتضمن ملاحقة عملاء العدو الإسرائيلي في لبنان أصلاً، فما الجدوى من تشكيل هيئة عليا لملاحقتهم؟
إن تكرار العقبات والمشاكل والتجاوزات والسجالات التي حصلت في قضايا أخرى مثيلة لقضية زياد عيتاني واحتمال التكرار بسبب عدم المعالجة الحاسمة، يستوجبان وضع حدّ فوري لها، نظراً إلى خطورتها على المستويين الداخلي (التوترات الطائفية/المذهبية) والخارجي (مواجهة العدو الإسرائيلي)، وبالتالي تمنح الهيئة العليا المقترح إطلاقها، والتي يستحسن أن يترأسها قاض من ذوي الخبرة والمعرفة الأمنية والعسكرية والاستخبارية، صلاحيات استثنائية تشمل الآتي:
1ــ رفع تقارير سرّية مفصّلة الى المجلس الأعلى للدفاع عن الشبهات والرصد والتعقب والملاحقات القائمة، وصياغة تقارير تتضمن اقتراحات بشأن الطلبات والتبادل والعلاقات مع الدول العربية والأجنبية، حيث إن عمل الاستخبارات الإسرائيلية في لبنان يمرّ بدول أخرى، وغالباً ما يستخدم عملاء إسرائيل جوازات سفر وهويات صادرة عن دول أجنبية.
2ــ فرض حظر استثنائي على نشر وبثّ أي معلومات عن التحقيقات السرّية في قضايا التعامل مع العدو الإسرائيلي في وسائل الاعلام من دون الحصول على موافقة خطية مسبقة من الهيئة العليا، واتخاذ قرارات عقابية استثنائية صارمة قد تصل الى حد إغلاق الوسيلة الإعلامية ومنعها عن العمل في حال تجاوزت التوجيهات القضائية في هذا الاطار. ولا بد من الإشارة هنا الى أن الهيئة قد تختار اعتماد التضليل في بعض الحالات؛ فمثلاً، يمكن أن تطلب من وسائل إعلامية نشر خبر يتبين لاحقاً أنه غير صحيح، وذلك للإسهام في تقدم التحقيق والإيقاع بالمشغّل الاسرائيلي في قبضة الامن اللبناني.
3ــ تقديم كل ما يلزم من حاجات بشرية ومادية ومعلوماتية للمديرية العامة لأمن الدولة والمديرية العامة للأمن العام، بدعم ومؤازرة مديرية المخابرات في الجيش وفرع المعلومات في قوى الأمن وسائر الاجهزة الأمنية، لتمكينهما من العمل أينما كان وبأي طريقة يستدعيها الأمر لاستدراج المشغلين الإسرائيليين للعملاء في لبنان والإيقاع بهم والقبض عليهم وإحالتهم الى المحكمة العسكرية، ومن ثم تقديم شكاوى دولية مباشرة الى مجلس الامن الدولي بحق العدو الإسرائيلي مرفقة بملفات قضائية رصينة.
4 ــ تشديد القاضي رئيس الهيئة على وجوب رضوخ جميع الضباط والرتباء والعناصر لتوجيهاته الصارمة لجهة السرية التامة وعدم التداول بملفات التحقيق مع أيّ كان، بمن في ذلك زملاؤهم في السلك وعوائلهم، والعمل بهدوء وحذر، ومراجعة كل المعلومات باستمرار، وإعادة التدقيق في المعطيات واستخدام منهجيات تقاطع المعلومات وتعدد المصادر، ووضع منهجية مفصلة لتصنيف صدقية المصادر، وتوظيف الموارد التقنية الأحدث في الرصد والمراقبة والتنصت، في إطار تطبيق القانون 140/99.
مع الأسف الشديد، لا ولن يدخل اقتراح إنشاء الهيئة العليا لملاحقة عملاء العدو الإسرائيلي في لبنان في إطار الحملات الانتخابية التي تشغل البلد اليوم. فالناس قد لا تهمهم المعالجات المسؤولة بقدر ما تثيرهم التوترات الفئوية والمشاحنات الطائفية والمذهبية والصراعات الأبدية بين أبناء البلد الواحد والمنافسات التافهة بين الاجهزة الأمنية والعسكرية ومكاسب محاصصات التشكيلات القضائية والسبق الإعلامي والبهورات البوليسية. فجميع الشعارات المرفوعة تُنقِص الموضوع أهمية، لكنها تزيده جاذبية.
غداً: خطر فبركة ملفات جنائية بحق صحافيين