هنا بيروت.. ما زلنا بخير حتى الآن.
لا تشبه بيروت دمشق. الحرب هناك سجال وإنهاك وانتهاكات. ريفها يتألف من رصاص وقذائف وقنابل وغارات.
لا تشبه بيروت حلب. إعدامات بالرصاص والسكاكين. سكان مقيمون على أهبة القتل أو في مهب العراء. لا هدنة ممكنة بعد. خسائر النظام توازي خسائر «داعش». الحسم مؤجل إلى ما بعد دوميستورا.
لا تشبه بيروت بغداد ولا أي مدينة عراقية. هناك «داعش» في «عاصمتها» الموصل. تتمدد وتتقلص ولا تنهزم. بالأمس تحديداً، أحرقت خمسين شخصاً في الأنبار. نموذج «الكساسبة» ينتقل إلى حيث تكون «داعش». الذبح استنفد صيته. جزّ الأعناق، تقليد مدوّن. الإحراق، هوليودي أكثر، وأشد رعباً و.. عاراً.
لا تشبه بيروت صنعاء ولا تشبه عدن. نحن بلا رئيس جمهورية، صحّ. ولكن الأمن مستتب ولا أحد سيحتل الفراغ في القصر الجمهوري. رئيس اليمن منصور هادي تحرَّر من أسر الحوثيين، وانقضّ على انقلابهم من عدن. مشروع الحرب الأهلية قابل لإحراق اليمن، والعملية السياسية لا تسير أبداً برفقة السلاح والمسلحين.
لا تشبه بيروت أي مدينة ليبية. فبرعاية برنار هنري ليفي (وهو يطالب اليوم، بتسليح أوكرانيا لهزيمة الانفصاليين) تمّ تحويل ليبيا إلى بؤرة إرهابية وإلى تمكين «داعش» من الاستيلاء على أسلحة كيميائية. والموت في المدن الليبية أسهل من أي مكان. مدرسة «داعش» تبشر بالقتل وتمارسه. أفدح ضحاياها ليبيون وأشنعها ذبح الأقباط المصريين.
لا تقارَن بيروت بأي عاصمة، فما زلنا بخير حتى الآن.
إذاً: هنا بيروت. نحن بخير، ولكننا في خطر، والخطر داهم، بعضه صار على الحدود، وبعضه ينتظر ذوبان الثلوج عن القمم الشرقية من شمالها إلى جنوبها.
الجديد الذي حمل بصيص أمل للبنانيين، إمكانية الاتفاق على «استراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب». سبق هذا الأمل الضئيل، اتفاق شفهي حاسم يعتبر «داعش» و»التكفيريين» (ليس معروفاً إذا كانت «النصرة» من بين هؤلاء) خطراً يهدد بإشعال الحرائق في لبنان، أسوة بالحرائق المشتعلة في أكثر البلدان العربية، وأشدها التصاقاً بلبنان، أي سوريا تحديداً.
سبق هذا الأمل الضئيل، أن نجا لبنان من حروبه الداخلية التي كانت أسبابها كثيرة. ثبت بالتجربة، في ما بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري، أن القوى اللبنانية المنقسمة والممزقة، لم تلجأ إلى السلاح ولم تنشئ جبهات ولم تحفر خنادق ولم تشعل حرباً. استعاضت عن ذلك بخطب نارية اتهامية، بلغت حدود لصق تهمة الخيانة بالخصم، وبحشود مليونية(!) افترشت وسط المدينة، وتجاورت في الساحات، على ما بينها من عداء، ولم يعكر صفو احتشادهم حادث يمكن تذكره.
نجا لبنان، بعد الاغتيال، وبعد حرب تموز، وإبان وما بعد 7 أيار، وعند اندلاع «الربيع العربي»، وانفجار المشرق العربي، وتناوب موجات الدمار والتتار، من حرب داخلية. العمليات الأمنية كانت ممسوكة، وهدفت إلى تبليغ رسائل. ثم نجا لبنان من الفلتان الأمني، فعندما جاءت الكلمة السحرية، انتظم الجميع في حكومة واحدة، وأخليت طرابلس من «أمراء المواقع»، وأخلي المبنى الذي كان يضم «إمارة سجن رومية»، ولوحق مطلوبون، من دون أن يُرفع شعار «يا غيرة الدين».
هنا بيروت وأخواتها، نحن بخير. الخطر المفترض من الداخل، تمت تنحيته، فلا أحد يريد حرباً. ومع ذلك فنحن في خطر، إلى أن تتفق القوى اللبنانية، وتحديداً، قطبا الاختلاف والانقسام، «تيار المستقبل» و «حزب الله».
معالم الاستراتيجية التي لم تحظ بعد بتغطية وطنية، هي مواجهة «داعش» و «النصرة» و «التكفيريين» على الحدود، بالقوة النارية. سبق «حزب الله» هذه الاستراتيجية الوطنية، بأن انتشر وقاتل وحمى. في زمن العدوان. لا وقت لانتظار قرار الحرب والسلام. العدوان يفرض منطق: احمل سلاحك واتبعني.
حكاية قرار السلم والحرب لها قراءتان: قراءة مبدئية وقراءة واقعية. في المبدأ، الدولة وسلطاتها الشرعية، هي صاحبة الحق الشرعي بقرار هو الأخطر، وهو قرار السلم والحرب. هذا المبدأ، لم يصدق اللبنانيون معه على مر تاريخهم الحديث: قاتل البعض مع الفلسطينيين من أجل فلسطين وتحسين المشاركة في السلطة. وقاتل آخرون مع إسرائيل لطرد الفلسطينيين وللحفاظ على الامتيازات وهلم جراً. ثبت أن لبنان الرسمي عاجز عن تطبيق الميثاقية. ولم ينجح في ميثاقيته، إلا عندما كان الإقليم هادئاً وبلا مشاكل. أما والإقليم قد اشتعل مراراً، فإن لبنان جاراه باستيراد الاشتعال إليه.
القراءة الواقعية لقرار السلم والحرب، هذه المرة، تبدأ من حاجة الجميع لمواجهة الخطر الإرهابي، وعليها أن تنطلق من حاجات الجبهة والميادين، التي تبتّ جدوى الاشتراك فيها، على الأقل، في الجهة اللبنانية من الجبهة السورية المفتوحة. صحيح أن «حزب الله» سبق واشترك إلى جانب النظام. هذا فصل خلافي بين اللبنانيين، ولكن الاشتراك مع الجيش و «حزب الله» في مواجهة «داعش» و «النصرة»، يلزم أن يكون فصلاً وفاقياً. فإذا كان في رأي «المستقبل» أن المقاومة الإسلامية في سوريا تدافع عن نظام هي ترفضه وترغب في إسقاطه، فإن هذه المقاومة بالذات، هي التي تتصدّى من الداخل اللبناني إلى جانب الجيش اللبناني، لهذه القوى الإرهابية المنتشرة، بكامل عدّتها الثقيلة، على تخوم بعض الحدود اللبنانية الشرقية وداخلها. السؤال هنا، ليس ماذا يفعل «حزب الله» في جرود لبنان؟ إنه يقاتل «النصرة» و «داعش».
السؤال هو: لماذا تكتمل عدة الاستراتيجية الوطنية، عبر قبول مشاركة «حزب الله» مع الجيش اللبناني في هذه المواجهة التي لولاها، لكانت طريق توطيد الخلافة الإسلامية، تمر بجونية ومعراب والرابية وعين التينة والبسطة والوسط… وعلى لبنان السلام.
لبنان في خطر. هذا الخطر واقعي ومادي وملموس. جيد اعتراف الأكثرية بذلك، ولكن ما العمل؟ إنه بالإمكان إجراء فعل مادي، بين قتال الحزب في سوريا لحماية النظام، كما يقول، وبين قتاله في لبنان، لحماية لبنان حقيقة.
يفترض، إذا كانت الحكمة سيدة الحوار بين «المستقبل» و «حزب الله» ان يؤجّل النقاش المبدئي في الاستراتيجية الدفاعية العامة. النقاش الجزئي، أفضل من «اختراع المستحيل». المعركة مع الإرهاب قائمة وملحّة، وليس عند أحد ترف البحث في المبدئيات.
هنا معركة ناشئة.
غداً ستكون المعركة قاسية وخطيرة.
قريباً أمام اللبنانيين استحقاق ما بعد الثلج.
الالتفاف الشعبي حول متطلبات المعركة أهم من البحث في الاستراتيجية الدفاعية والضياع في مبدئيات وحدانية القرار في الدولة… فإما المعركة المقبلة، أو الدوران في جنس الملائكة.
هنا بيروت: لبنان في خطر. اللبنانيون بانتظار اتفاق قواه السياسية على خوض المعركة بشروط الانتصار، وإنقاذ لبنان من الحرائق.