IMLebanon

حتى لا يُمسِك الحوار المذهبي أكثر فأكثر بمفاصل الإدارة

يُقال إنه لتنفيس الإحتقان، لتدارك ما قد تذهب اليه المحكمة الدوليّة، وللتخفيف من وطأة الثقافة المتوحّشة التي تتَسلّل من وراء الحدود. كلّ هذا صحيح، والصحيحُ أيضاً أنّ هناك إرتياباً من الحوار، يصفه البعض بحوار الإقطاع المذهبي على حساب الحوار الوطني، وحوار إقتطاع ما أمكَن من «جبنة» الوظائف في المؤسّسات العامة كمكاسب مسبَقة، لفَرضها أمراً واقعاً على الشركاء عند قيام الدولة مجدَّداً، وإنبعاث الوطن.

يتصرَّف أهل الحوار، وكأنّ اللامركزيّة الإداريّة التي يُوصي بها الطائف ستتحوّل عاجلاً أم آجلاً، لامركزيّة سياسيّة، وبالتالي لا بدّ من إستباق الأمور عن طريق حشر أكبر قدر من أعداد الموظفين المحسوبين على هذه الطائفة أو تلك، بهدف الإمساك بمفاصل الإدارة، خصوصاً تلك التي تمثّل «دوائر مركزية القرار».

وفي زمن التغيير الديموغرافي، والأخطار الوجوديّة المصيريّة التي تدقّ أبواب لبنان من الداخل، وعلى الحدود، يستيقظ الساحر، ويخطف اللبنانيين بألعابه البهلوانيّة تارة تحت شعار الأمن الغذائي، وتارة أخرى الأمن الصحي، وحيناً الفساد في الدوائر المالية والعقارية، وأحياناً أخبار الكازينو، والحوض الرابع، والآن، الزواج المدني، ومصير أموال البلديات، وتثبيت المتعاقدين.

يبدو أنّ الذي يُحرّك هذه القضايا، ويُثيرها تحت أضواء إعلاميّة غير مسبوقة، هو على قدر فائق من الفطنة والخبرة، ساحر يعرف كيف يتلاعب بمشاعر اللبنانييّن، ويصرف أنظارهم عن القضايا الأهم التي تُلامس حاضرهم، ومصيرهم، ومستقبلهم، الى الإهتمام والتفاعل مع موضوعات لا يمكن التقليل من شأنها، ولكنّها لغير هذه الحكومة، وهذا الزمان الذي تُقطع فيه رؤوس، ويُحرق بشر أحياء تحت عدسة الكاميرا، فيما تقتصر ردود الفعل على الإستنكار، وكأنّ ما يحدث من عالم آخر. يتابع اللبنانيّون منذ أشهر، المسلسل المشوّق المعروف بالأمن الصحي والغذائي.

تتعلّق أنظارهم كلّ مساء بالشاشة الصغيرة لمعرفة «جديد أبو فاعور»، وتُحدّق عيونهم في متابعة فصول الحلقة الجديدة المشوّقة عمّا تحتوي المأكولات، والمستوردات، والمصنّعات من مواصفات غير متطابقة… لكنّ المتابعين لم يروا، ولم يسمعوا يوماً أنّ رؤوساً كبيرة قد أصبحت وراء القضبان. يعرفون جيّداً أنّ «التلم الأعوج من التور الكبير»، ووراء المرتكبين الصغار هناك رؤوس كبيرة ضالعة، تدير «اللعبة» بإتقان، وتشكّل أخطبوطاً بأضلع كثيرة متمدّدة في كلِّ المرافق الغذائيّة والصحّية، ولكنها محميّة من أمراء الطوائف والمذاهب.

مسرحيّة الكازينو إنتهت، ولكنّ أحداً لا يعرف الكثير عن خبايا وخفايا فصولها، ولماذا في هذا التوقيت؟ ولماذا بدأت طالما أنها إنتهت كما شاء لها «وكر الدبابير» أن تنتهي، وعلى مزيد من الهدر؟

وثمّة مَن يقول إنّ المشرفين على طبخة الحلّ كانوا من كلّ الطوائف والمذاهب، كون الكازينو مرفقاً عاماً، ولكنّ هناك مرافق عامة في الدولة أصبحت حكراً على بعض أمراء الطوائف، بحيث لا يسمح لهذا «الكلّ» أن يُشارك في طبخ الحلول، والإطلاع على طرق الإنفاق. إنها شكليّاً مؤسسات رسميّة عامة، لكنها عمليّاً أشبه بشركات مقفلة خاصة ترتع في ملاكاتها غالبيّة من لون مذهبي معيّن… ولا مَن يحاسب، لأنّ المحاسبة ممنوعة.

هناك حقٌ مهدور خاص بالمتعاقدين الذين يفترض تثبيتهم في المؤسسات الرسميّة، وقد أفنوا سنواتٍ طويلة في الخدمة. لكن عند التدقيق في لوائح الأسماء يتبيَّن أنّ في الأمر غلبة مذهبيّة وطائفيّة تتخطى الميثاقيّة.

هناك أعداد مضاعَفة من المياومين التابعين لهذه المرجعيّة أو تلك قد حشروا حشراً، ويراد تثبيتهم الآن بلا مراعاة المناصفة، والتوازن الطائفي والمذهبي، وذلك بدعم واضح من بعض أمراء الطوائف، مستفيدين من الظرف الأمني والسياسي الذي يمرّ به لبنان، ومن الفراغ في سدّة رئاسة الجمهوريّة، لفرض طغيان فئوي على الإدارة، يصعب تصحيحه مستقبلاً. ولا مجال للدخول في أنفاق الصرعات الأخرى التي تشغل بال اللبنانيّين هذه الأيام.

يقول سفير عربي متابع: «إنكم في لبنان تستهوون صورة البطل في زمن لم يعد فيه من بطولات. فوراء قضية مياومي الكهرباء كان هناك بطل. وخلف قضية سجن رومية بطل. ووراء مطمر الناعمة بطل.

وفي قضيّة الكازينو أكثر من بطل. وهكذا دواليك… وعندما يسقط أبطال في صفوف الجيش دفاعاً عن الوطن، لا يجد عند هؤلاء سوى عبارات العزاء، فأين هو البطل الفعلي الذي يمدّه بسلاح يحتاجه؟».

يقول الأستاذ سمير عطاالله: حوار «تنفيس الإحتقان» لا يمكن أن يكون بديلاً من «حوار بعبدا». المسألة أكبر بكثير من إحتقان عصبي. إنها مسألة بقاء لا تتحمّل التكابر، ولا المكابرة، ولا التكبّر.