انتهت مؤتمرات الرياض إلى ما انتهت إليه وإلى ما نشأ عنها من تحولات إنقلابية في الموقف الأميركي، وكان منبر المؤتمر السعودي- الأميركي بالتحديد مَطَلّاً على المقررات الأساسية التي أنتجها الحراك السعودي في الولايات المتحدة من خلال الجيل الجديد من مسؤوليه، وأثمر عن توقيع جملة من المعاهدات الإستراتيجية والأمنية والإقتصادية، التي دلت على مدى وحجم التحولات الجذرية الحاصلة، وها هو دينامو الحركة السياسية ولي وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان وقد حطّ به الرحال في موسكو لمتابعة حثيثة لقضايا المنطقة الملتهبة إستكمالا لحركة دولية واسعة تعيد الأمور السعودية والعربية في شتى المجالات، إلى أماكنها ومواقعها الصحيحة.
لقد أثبتت المملكة أنها موقع ميداني مركزي متمكن من سلطاته الداخلية وموقعه الروحي والديني وقدرته ومصلحته الأكيدة في مجابهة الإرهاب والتصدي له، وكان طبيعيا أن تكون المنظمات الإرهابية المعروفة، في طليعة من ستتناولهم المجابهة السياسية والعسكرية والعقائدية، وقد حظي الطرفان السعودي والأميركي بمواكبة ومؤازرة عربية وإسلامية أجمعت على وضع إيران في نفس الموقع الإرهابي نظرا لأذرعها الميلشياوية التي اقتحمت حدود المنطقة في أكثر من دولة، باستثناء قطر التي طعنت الخليجيين في الظهر كما يقول الإعلام السعودي، مما قد يعرّضها لمحاسبة أميركية- خليجية قاسية، تحسبت لها قطر، وسيسعى حاكمها إلى مصالحة ما مع محيطها الخليجي من خلال توسيط أمير الكويت في هذه المهمة الصعبة.
ولئن كان من البديهي الإشارة إلى أن المنطقة ستكون أمام تحولات هامة متسمة بتكثيف المعالجة والمجابهة العسكرية للأخطار والأضرار التي تسببت بها إيران وأدت إلى دمار هائل في أكثر من بلد عربي، ونتيجة للتطورات الدراماتيكية والتوقعات التي ستتلوها، الأمر الذي بدأت ملامحه بتطورات عملانية في أكثر من موقعٍ، ولعل التوترات المستجدة على الحدود السورية العراقية واحتمالات ترجمتها عسكريا للحؤول دون تنفيذ الطموحات الإيرانية المتمثلة في ممرها الذي تسعى له على طول المواقع التي تربط طهران ببيروت يشكل أهم نتائج قمة الرياض التي برزت حتى الآن.
ومهما كانت درجات النجاح الذي حققته القوى الأمنية على صعيد الحفاظ على وضع أمني يقي لبنان من أخطار الجهات التكفيرية التي تمدّ أصابعها الإجرامية إلى سائر أنحاء العالم، وآخر جرائمها الآثمة، الجريمة الكبرى التي ارتكبت في مصر الشقيقة وطاولت عشرات المصريين الأقباط سعيا مستمرا ودؤوبا لإحداث شرخ عميق في صُلب الوحدة الوطنية المصرية وفي سلامة الأوضاع في دولتها الساعية إلى النهوض من عثراتها التي تضعها على حافة الأخطار.
ومهما ذهبت آمالنا إلى استمرار ما للوضع الأمني المعقول، ومحافظة منا على علاقاتنا مع الأخوة العرب وخاصة منهم المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي، لا بد من الإشارة إلى توقعات السياسيين المحليين والإقليميين والدوليين التي أخذت تتسرب إلينا من تصريحات وتوقعات تشير إلى أحداث جسام قد تشهدها المنطقة كنتيجة عملانية لقمم الرياض ومقرراتها، الأمر الذي لا يمكن معالجته لدينا إلاّ من خلال تلاحم وطني طارىء وسريع، يساعد في لملمة الأوضاع الداخلية المتجابهة، إلاّ أننا مع الأسف، عدنا إلى الغرق في مستنقعات آسنة تشد بنا إلى الوراء وصولا إلى المهاوي السحيقة، نقول ذلك بالرغم من التطورات الإيجابية التي ملأت أجواء البلاد أدّت إلى شيء من الإرتياح، فلم تدُم تفاؤلاتها أكثر من أربع وعشرين ساعة لتعود حليمة إلى أوضاعها القديمة، وليعود التلاطم حول القانون الإنتخابي إلى مرحلة الولادة المتعثرة، وهكذا عادت بنا مستجدات الأمس القريب ومواقف كل من الرئيسين عون وبرّي، إلى التفاصيل المتناقضة، ويا خوفنا من هذه التفاصيل التي قد يكون الشيطان قابعا بين ثناياها، خاصة وأن هذا القانون قد سبح طويلا في مياه الخلافات والتجاذبات والمصالح السياسية وطموح أكثر من فئة إلى الإستمرار في الإمساك بمقاليد الحكم والتحكم، والسلطة المؤدية لدى الكثيرين إلى وضع اليد والجيب في كل مواقع النهب والسرقة الموصوفة وتكديس الثروات وحرمان هذا الشعب المنكوب من أبسط مقومات الحياة السليمة التي تضمن له لقمة عيش نظيفة وبيئة خالية من سرطانات المياه الملوثة وزبالة الشوراع ومكبات المناطق.
وبما أن السياسة في بلادنا قد اعتادت على أجواء شديدة التقلب، ها هي مساعي الرئيس الحريري بالأمس تسفر عن إعادة بعض من الآفاق الإيجابية على سكة الحلحلة، وها هي الجهود معقودة على أن يسفر الإفطار الرمضاني الذي سيقيمه فخامة الرئيس عون في بعبدا هذا اليوم بحضور الأسرة اللبنانية بجمعها السياسي والروحي، عن إعلان ما يستشف منه أن مسيرة القانون الإنتخابي المنتظر ستصل إلى خاتمة سعيدة.
يبقى أن نشير إلى أنه في إطار السلبيات القائمة، ولكون بعض منا، ينقلون أبناءهم واهتماماتهم وولاءهم إلى مواقع القتال في دولٍ، مجاورة وبعيدة، متحدّين، غالبية أبناء هذا البلد التي انصبت مشيئتها على مبدأ النأي بالنفس كحد أدنى لمعالجة انعكاسات أوضاع المنطقة على أوضاعنا الداخلية وتناقضاتها الخطرة، ولكون بعضهم الآخر يطلق الصوت عاليا ومستعليا في توجيه الكلام المسيء والتهجم العلني على دول الخليج التي ما زال أبناؤنا يعيشون في كنفها ويجنون أرزاقهم من أعمالها ويزوّدون هذا البلد ببعض من خيراتها، ولكون بعض الجهات المسؤولة لدينا تتخذ مواقف مجابهة ورافضة لمراعاة شعور ومصالح الأخوة الخليجيين في وقت لم يقصّر هؤلاء في مراعاة الوضع اللبناني والتغاضي عن الكثير من التصرفات التي أساءت إليهم، وما زال هذا العبث المؤسف على الصعيد الخليجي مستمرا من خلال مواقف يتخذونها وتمثلت مؤخرا في مواقف جديدة لوزير الخارجية وللمسؤولين الذين تبنوا مواقفه، ولبعض الزعماء الذين هللوا لها وأيدوا مضمونها، وكأن دروس الماضي القريب ونتائجها السلبية القاسية، لم تكن كافية، في هذه المرحلة الحبلى بشتى أنواع التشنجات والمخاطر، ندعو اللبنانيين المقاتلين في الخارج أن «عودوا فالعود أحمد».
إن أكثر ما يدعو إلى التحسّب، أن تكون الأيام الصيفية المقبلة تخبىء لنا بعضاً من الأحداث المتوقعة والناتجة عن قمم الرياض «وعن سواها من التحسبات والتوقعات» والتي تتسم عموما باستعداداتها للمجابهة السياسية والأمنية مع إيران وأذرعها في المنطقة، حيث قد تكون هذه الأذرع هي من ستطاولها المجابهات المتوقعة نظرا للصعوبات التي قد يشكلها التعرض المباشر لإيران نفسها، عسى الاّ يكون الصيف المقبل لاهباً إلى هذا الحد.