Site icon IMLebanon

… إذنْ الموضوع ليس “داعش”

من “فوائد” حادث الإسقاط التركي للطائرة العسكرية الروسية، هو انكشاف موضوع الصراع في المنطقة. في البروباغندا “داعش” هي الموضوع، لكن تبين من “الإشكال” التركي الروسي أن الموضوع هو التوازن بين محورَيْن: الأميركي والروسي.

بينما من المفتَرَض أن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، الحامل لجرح وطني فرنسي عميق بعد مجازر باريس، يقوم بجولة بين البيت الأبيض وموسكو لتوحيد الجهود تحضيراً لضربة غير مسبوقة ضد “داعش”… إذا بالحادث الجوي التركي الروسي يجعل مهمته “التوحيدية”، المعلنة على الأقل، ليس فقط صعبة بل بعيدة.

لقد أخبرنا “الإشكال” التركي الروسي أن “داعش” باقية طويلا تحت حماية تناقضات المنطقة واستهدافات قواها الدولية والإقليمية في مرحلة ما بعد سايكس بيكو. دعونا نستدرك هنا لمحاولة تحديد أحجام التوصيفات والتوقعات.

فلا يعني التأييد الأميركي السريع للموقف التركي أمس الأول وعبره “الناتو” أن الدخول العسكري الروسي الكثيف إلى سوريا قد تمّ من دون موافقة أميركية ضمنية أعقبت الاتفاق الأميركي الإيراني النووي. لكن الآن نفهم ربما بُعدا جديدا لما سُمِّي “الانسحاب” الأميركي من المنطقة وهو أن واشنطن قبلت بسبب تغيير أولوياتها العالمية باتجاه شرق آسيا والصين، قبلت بـ”تسليم” المنطقة للقوى الإقليمية فيها وروسيا هي بهذا المعنى إحدى القوى الإقليمية الكبيرة لكن مقابلها هناك أصدقاء أميركا القادرون على تعبئة جزء من الفراغ كتركيا والمملكة العربية السعودية. دون أن ننسى طبعا الصديق الإسرائيلي الأكبر لواشنطن وهو الذي يبدو اليوم، ولو شكلاً، كأنه (كأنه) يقف في الوسط بين روسيا وإيران من جهة وبين تركيا والسعودية المقاتلتين في سوريا واليمن من جهةٍ ثانية!

هذا هو المعنى الحقيقي لما سُمِّي اصطلاحا “الانسحاب” الأميركي من الشرق الأوسط. فروسيا في الجغرافيا تقع على حدود الشرق الأوسط القريبة. وهي هنا عندنا وبنسبة طبعا أعلى في أوكرانيا قوة إقليمية وليست دولية فقط مثل فرنسا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة الأميركية. وهذا هو المعنى الحقيقي لبرودة بل رخاوة الرئيس الأميركي باراك أوباما المبكرة في التعاطي مع مجازر باريس والتي كرّرها، بمصطلحات أكثر لياقة شكلية فقط، خلال لقائه مع الرئيس الفرنسي أمس الأول.

وكما أن الصدام التركي الروسي نبّهنا إلى “إقليمية” الوضع في المنطقة، علينا أن لا ننسى أن الاتفاق الإيراني الأميركي النووي هو نقطة الانعطاف الكبرى التي حدثت والتي على أساسها بات اللاعبون الكبار والمتوسِّطون يتصرّفون.

على ضوء ذلك قد يكون هناك “متضرران” رئيسيان من الصدام التركي الروسي هما فرنسا ومصر.

ففرنسا التي أخرجتها مجازر باريس من أي إمكانية تساهل معلنة مع “داعش” وصاحبة مصلحة في جبهة تضم واشنطن وموسكو لاقتلاع الإرهاب الداعشي، هذه الفرنسا تبدو مرتبكة أمام عودة أولوية الصراع بين المحورين على سوريا لأنه سيضعها إما أمام خيار قد لا تقوى عليه بحكم حجمها في ميزان القوى والمصالح وهو القيام بهجوم مشترك مع أو مدعوم من الروس على “داعش” أو العودة إلى الانضباط في إطار السياسة الأميركية الباردة حيال “داعش” تحت شعار “الاستراتيجية الطويلة الأمد في مواجهة داعش” خصوصا أنه قبل مجازر باريس كانت فرنسا قد حصدت عقودا عسكرية ضخمة مع عدد من الدول العربية بعشرات مليارات الدولارات.

المتضرر الأكيد الثاني من تراجع أولوية مواجهة الإرهاب هو طبعا مصر التي كان قيام جبهة عالمية وإقليمية لاستئصال “داعش” سيناسبها تماما لأنه فضلا عن مساهمته المباشرة في خدمة هدف الاستقرار المصري الداخلي سيخفف عنها بل سيخرجها من إحراجات التوفيق بين علاقاتها بكل من موسكو وواشنطن وخصوصا إحراجات متطلبات علاقاتها مع السعودية. فهي رغم مشاركتها الفنية والبحرية في التحالف العربي في اليمن لم تشارك بقوات برية قتالية. وهي في الوقت نفسه يجمعها بالنظام السوري عدو تكفيري مشترك ويجمعها بالسعودية مصالح اقتصادية ضخمة واعتبارات جيوسياسية.

فرنسا المجروحة عميقا وخلفها أوروبا الخائفة هل ينكشف ضعفها في الميزان الدولي فتعجز عن بناء سياسة حاسمة ضد “داعش” في ظل الأولويات الأخرى للولايات المتحدة التي كشفتها التطورات منذ قمة العشرين إلى “الإشكال” التركي الروسي؟ وهل بالتالي ستعجز فرنسا عن الحصول على تفويض بعد مجازر باريس في سوريا والعراق “الداعشيّتين” يعادل التفويض الذي حصلت عليه في دولة مالي؟

بالنتيجة هل ستتمكن فرنسا من القيام برد فعل على 11 أيلول الباريسي يشبه أو يقترب من رد الفعل الأميركي على مجازر 11 أيلول 2001 التي ضربت فيها واشنطن أفغانستان واحتلّتها طاردة “طالبان” وتنظيم “القاعدة” خلال أقل من شهر على حدوثها؟

أتمنى لأسباب كثيرة، مثل كثيرين، أن تكون فرنسا في منطقتنا أقوى مما يظهر حتى الآن. وأن يثبت أن شكوكنا غير صحيحة. فرنسا وباريسها الرائعة.