لا أحد يعرف شيئاً عن مؤتمر «الحوار السوري» في سوتشي. لا الدول المدعوة إلى دعمه أحيطت بأهدافه ومغزاه، ولا الدول التي كانت ولا تزال على اتصال بموسكو فهمت جيداً ما ترمي إليه القيادة الروسية. ولا «الشريك» الإيراني بادي الارتياح إلى هذا المؤتمر. ولا «الحليف»، نظام بشار الأسد نفسه، عالم بسرّه، فهو حائر بين ابتهاجٍ بسوتشي كعنوان لتكريس بقائه واستمراره وانزعاجٍ منه لأنه يُغرقه في حشد يبادله كرهاً بكره ويجبره على «مصالحة» مَن استعداهم ولم ينجح بعد في قتلهم. ولا المعارضة، المدعوة – غير المدعوّة إلى «الحوار» في ضوء رضوخها للضغوط وتخلّيها عن شرط «رحيل الأسد» أو تمسّكها به. أما روسيا التي بـــدأت القول أن مؤتمر سوتشي مجرد فكرة طـــرحها فلاديمير بوتين، فبذلت جهوداً على مدى شهور لبلورة الفكرة وإلباسها أثواباً عدة، وانتقلت من احتمال دعوة خمسمئة شخص إلى الاقتناع بضرورة جلب أكثر من ألف آخرين، ومن حوار إلى مصالحة إلى إقرار مسوّدة دستور جديد نسخ «خبراؤها» معظم مواده من الدستور الروسي. وأما واشنطن فلم تخرج عن إطار تفويضها «الملف السوري» إلى الروس، ولو أنها لم تؤيد «مشروع سوتشي» ولم تعارضه.
واقعياً، سيبقى «حوار سوتشي» أقرب إلى حشد كرنفالي. عملياً، ستبني موسكو عليه الحل الذي يناسبها، وتبدو أنها تنسجه بتعاون وثيق من أنقرة. حتى أن المشاركين في مؤتمر «آستانة 8» وجدوا أن صيغة الدول الثلاث الضامنة تحوّلت خلال عام إلى «2+1» لأن ثنائي روسيا – تركيا يبدو أنه حجب إيران موقتاً، ولا يعني ذلك استبعاداً لها بل إن المراحل المتبقية من الخطط الروسية تحتاج أكثر إلى تركيا، سواء لاستكمال «مناطق خفض التصعيد» أو لاجتذاب المعارضة السورية المقيمة في تركيا إلى سوتشي، على رغم «الفيتو» التركي على أي دور أو مشاركة لـ «حزب الاتحاد الديموقراطي» و «وحدات حماية الشعب» الكرديَين واعتبارهما «منظمتين إرهابيتين» لارتباطهما بـ «حزب العمال الكردستاني». في المقابل، اتهمهما الأسد بـ «الخيانة» لأنهما قاتلا «داعش» بدعم من قوة خارجية هي الولايات المتحدة. ولعل هذا «التوافق» الموضوعي، بين الأسد والأتراك، هو ما جعل مولود تشاويش أوغلو يتحدث إلى وفد المعارضة السورية عن «تلازم المسارين»، الأممي جنيف والروسي سوتشي. وكان مسار جنيف نتاج بيان صدر عن مؤتمر دولي – إقليمي (30 حزيران – يونيو 2012) وتم تأكيده في سلسلة مؤتمرات مماثلة موسّعة غداة التدخّل العسكري الروسي في سورية إلى أن صيغت في القرار 2254 (18 كانون الأول – ديسمبر 2015). أما مسار سوتشي فلم يتّضح بعد وتطرحه روسيا كأمر واقع يناسب مكوثها المديد في سورية، أو احتلالها لها، لقاء رشًى متفاوتة لإيران وتركيا.
تكتمل معالم «الحظ السيئ» والظروف المعاكســـة للشعب السوري، لا لتجعل محنته الأكبـــر والأسوأ فحسب، بل لتضع مآلاتها في أيـــدٍ روسية لم يسبق أن جرّبت شيئاً آخر غـــير الحلول العسكرية الأكثر وحشيةً. لم يفهـــم الروس من مأساة سورية سوى أن نظامها الإجرامي لم يمتلك الأسلحة الفتاكة المناسبة لإخماد «تمرّد» الشعب عليه، فجاؤوا مع تلك الأسلحة لمساعدته وحليفه الإيراني في مشروعهما الدموي الذي لم يبلغ نهايته بعد، فالنهاية غير المنتهية لـ «داعش» لم تؤمّن لهما سوى عناصر «انتصارية» ودعائية لمتابعة الإجهاز على الشعب. لم تتصرف روسيا طوال عامَين ونيّف كصانعة سلام، بل كراعية لذلك المشروع، ماضية في التدمير والمجازر والتهجير إلى أقصاها، وبمقدار وضوحها في بلوغ الأهداف أياً تكن كلفتها البشرية بمقدار خداعها الجميع في ما يتعلّق بإنهاء الصراع. ليس أدلّ على ذلك من كذبة «مناطق خفض التصعيد» التي تشنّ عليها يومياً عشرات الغارات القاتلة لمؤازرة قوات النظام والإيرانيين.
فالهدف الترويجي الأول لهذه «المناطق» كان «وقف إطلاق النار» الذي واظب الروس وحلفاؤهم على خرقه وانتهاكه. والثاني «تسهيل وصول المساعدات الإنسانية» لكن حصارات التجويع استمرّت تحديداً في الغوطة الشرقية. والثالث «إطلاق المعتقلين» في سجون النظام، ولم يتحقق بعد عام كامل سوى مشروع لتشكيل لجنة لمتابعته. أما المراقبة وآلياتها والدول الأخرى المساهمة فيها فلا يزال أمرها غامضاً غموض النيات والمزاعم والخدع بالنسبة إلى حل سياسي. ولا شك في أن ذروة مسلسل الخداع الروسي تتمثّل بترك الميليشيات الإيرانية تتمكّن داخل سورية، مع التظاهر بعدم الممانعة إذا ضربتها إسرائيل، بل بالاستعداد لإبعادها عشرات الكيلومترات من الجولان لفك الاشتباك بينها وبين إسرائيل، لكن هذه المنطقة تشهد حالياً حشداً هو الأكبر لأتباع إيران بزيّ قوات النظام. وبعد تسليم الحدود السورية – العراقية إلى الميليشيات الإيرانية، في خطوة تعكس أقصى التهوّر، ها هي تلك الميليشيات تتقدّم للسيطرة على ملتقى الحدود بين لبنان وسورية وإسرائيل، ما يحقّق الربط بين الجنوبَين اللبناني والسوري، وفقاً لتخطيط إيراني يعود إلى ما قبل حرب 2006.
يريد بوتين أن يبني على «مناطق خفض التصعيد» كنهاية للصراع السوري، لذا يمضي في الإعداد لـ «مشروع سوتشي» بعناد شديد. لكنه يخشى أن يكون الموقف الأميركي غير المبالي، تغطية لـ «تخريب» قد يحصل في أي وقت. فما يسمّيه «حواراً سورياً» لا يعدو كونه مهرجاناً احتفالياً بالدور الروسي، يُستدعى إليه «أمراء حرب» و «تجار حرب» وزعماء عشائر ورجال أعمال وأشخاص لا علاقة لهم بقضية الشعب السوري لكن تحصّلوا على منافع شتّى من الأزمة بالتعامل مع الأطراف جميعاً ويتطلّعون إلى أن تمنحهم روسيا أدواراً «سياسية» ليبقوا دائرين في فلكها أيّاً ما تكون المحصّلة الأخيرة لهذه الأزمة. وكل الأفراد الذين فوتحوا حتى الآن في إمكان استدعائهم وقعوا على طلبات مذيلة بعبارة «موافق على القرارات» التي يتوصل إليها «الحوار». أما السيناريو الأكثر تداولاً للمجريات المتوقعة لمؤتمر سوتشي فهي أن يلتئم الحشد لرفع الأيدي تأييداً لمسوّدة الدستور، ويتوّج لقاؤهم ببيان تصدره الدول الثلاث «الضامنة» (روسيا وتركيا وإيران) وتعلن فيه تبنّي الدستور الجديد. أكثر من ذلك، يتطلّع بوتين إلى قوننة «مخرجات» سوتشي إما بفرضها على مفاوضات جنيف كوثيقة منجزة، أو بابتزاز الدول لاستصدارها من مجلس الأمن، كما لو أنها تطبيق للقرار 2254.
لعل النتيجة المباشرة لمسعى الرئيس الروسي أنه أشعل استنهاضاً سورياً لا يرفع الغطاء عن كل مَن يشارك في سوتشي فحسب، بل استثار وعياً عابراً للفئات لم يعد يتردّد في اعتبار روسيا «قوّة احتلال» استمدّت «شرعية» من نظام أصبح دمية في أيدي ضباطها، وتسعى من خلال مؤتمر سوتشي لانتزاع «شرعية» لهذا الاحتلال ممَن يسمّيهم بوتين «شعوب سورية». نعم، هذا هو الهدف الروسي من «الحوار السوري» وليس غرضه، كما زعمت موسكو لبعض العواصم، دعم مفاوضات جنيف التي لم تدعمها ولا مرّة في جنيف ذاتها. جميع الفرص كانت متاحة أمام الروس ليبرهنوا أن لديهم فعلاً رؤية إيجابية لمستقبل سورية وشعبها، غير أنهم انشغلوا وشغلوا الآخرين تارةً بتبنّيهم الأعمى لنظام بات من الماضي مهما دعمه الظهيران الروسي والإيراني، وطوراً بالعمل على تفتيت صفوف المعارضة عسكرية أو سياسية، وصولاً إلى تصنيفات خرقاء يعتمدها سيرغي لافروف لـ «إسقاط» من يعتبرهم راديكاليين في وفد المعارضة إلى التفاوض.
صحيح أن الدول كافة لا تستطيع إنكار أن روسيا احتوت الأزمة السورية بالقوة العسكرية، وأنها مضطرة للتعامل مع موسكو على هذا الأساس، لكن تراجع هذه الدول عن دعم الشعب السوري أو دعوتها إلى الضغط على المعارضة لا يمكن أن يحقّقا لروسيا اعترافاً بشرعية دورها طالما أنه عاجز عن طرح حل سياسي حقيقي. وكيف يمكن هذه الدول أن تصدّق الروس إذا قالوا – داخل الغرف المغلقة – أنهم يضمنون «رحيل الأسد أثناء المرحلة الانتقالية»، أو أنهم يتعهّدون لجم الجموح الإيراني، أو أنهم يسعون إلى «دولة لجميع السوريين» فيما هم يعملون على إقصاء كل مَن يرفض بقاء الأسد في السلطة، فالعالم لا يعتبر وجوده في السلطة مشكلة سياسية بل كارثة أخلاقية.