بينما يتخبّط اللبنانيون في كومة من الأزمات الاجتماعية والمعيشية الآخذة في التكاثر فوق مستنقع من “المياه الآسنة”، لا يزال أركان الطبقتين السياسية والمالية يبحثون عن مقاربة موحّدة لأسباب الانهيار ومتطلبات معالجته.
من المعروف انّ المصيبة تجمع عموماً، فكيف اذا كانت بحجم الارقام المدوية التي بلغتها الخسائر المالية المترتبة على انهيار النموذج الاقتصادي الكرتوني الذي تَهاوى بشكل متدحرج وتلقائي مع سقوط أول حجر دومينو من حجارته.
ومع ذلك، لم تشفع المصيبة باللبنانيين، ولم تكن كافية لتحقيق الوفاق المالي بين المعارضة والحكم من جهة وبين أركان السلطة السياسية والنقدية من جهة أخرى، بل انّ التجاذبات استمرت على حدّتها، حتى أثناء تشريح جثة النموذج الاقتصادي الراحل لمعرفة الاسباب الحقيقية لوفاته.
وفيما تتمسّك الحكومة بصوابية مقاربتها لجذور الازمة وللحلول المفترضة لها، يعتبر أحد الخبراء الاقتصاديين انه يجب التخفيف من تأثير بعض المستشارين على سياسات الحكومة وخياراتها، لافتاً الى انه من الضروري على الاقل تحقيق نوع من التوازن مع نصائح هؤلاء المستشارين الذين يندفعون أحياناً في اتجاهات غير محسوبة جيداً.
ويشير الخبير، الذي لم ينقطع تواصله مع المقرات الرسمية، الى ان ليس من الحتمي التسليم بمبدأ التخلي عن نمط العيش السابق واعتماد سلوكيات جديدة ترتكز على التقشّف وتقنين الاحتياجات وفق الأهم فالمهم، مشدداً على انه «لا يجب أن نَرضخ بالضرورة الى اقتصاد الامر الواقع والاستسلام لمعادلة الاختيار بين الستيك والبرغل، ومن قال انه لا توجد بدائل أخرى تستطيع ان تجمع كل عناصر القوة الظاهرة والكامنة في اقتصادنا، من دون تغليب أحدها على الآخر»، ومحذّراً من خطورة الإقرار بأن لا مفر أمامنا من التدحرج الى ما قبل الثورة الصناعية والعودة دفعة واحدة، مئة عام الى الوراء.
الحلول البديلة متوافرة، كما يؤكد الخبير الواسع الاطلاع، «لكنّ المشكلة تكمن في أنّ بعض الهواة في الاقتصاد والسياسة هم الذين يتحكمون بزمام الأمور، ويبدو انهم حوّلوا البلد حقل تجارب لخياراتهم ونظرياتهم، علماً انّ المأزق المتفاقم لا يتحمّل ترف الاختبارات».
ويشدد الخبير الاقتصادي على أهمية الانتقال نحو الاقتصاد المنتج المرتكز على زراعة وصناعة قويتين وعصريتين، تسمحان بتحقيق حد أدنى من الاكتفاء الذاتي وبتصحيح التوازن المفقود بين الاستيراد الجارف والتصدير المحدود، على أن تتكاملا مع قطاع سياحي وخدماتي مزدهر.
وما يزيد الوضع تعقيداً، من وجهة نظر الخبير، التداخل والتشابك بين ما هو اقتصادي وما هو سياسي، «إذ انّ الازمة الحالية مركبة وتشكّل في احد جوانبها انعكاساً للحصار الأميركي على «حزب الله».
ويشير الخبير إيّاه الى انّ «المطلوب داخلياً ان نتحمّل مسؤوليتنا ونمتلك جرأة المبادرة، بمعزل عن نيّات الآخرين وحساباتهم، وبالتالي ينبغي إبداء مقدار من البراغماتية السياسية في التعامل مع المأزق وفق مقتضيات المصلحة اللبنانية، بعيداً من المواقف والأحكام المسبقة، حتى لو تَطلّب الأمر الانفتاح على خيار التغيير الحكومي في لحظة ما، لأنه ما النفع اذا بقيت الحكومة وانهار البلد».
َوالكلمة السحرية التي يمكن لها أن تفتح باب الحلول، وفق الخبير، تتمثّل في الثقة، «إلّا انّ المؤسف انّ الثقة معدومة حالياً في لبنان دولة واقتصاداً»، متسائلاً: اذا كان لا يمكن إقناع اللبنانيين العاديين باستعادة تلك الثقة فكيف يمكن أن نطلب ذلك من المستثمرين ورجال الأعمال في الداخل والخارج؟ علماً انّ هؤلاء هم القادرون وحدهم على وقف تَمدد التصحّر المالي، عبر توظيف الاستثمارات وإطلاق المشاريع في لبنان مع ما يَستتبع ذلك من ضَخ للعملة الصعبة وفرَص العمل.
وينبّه الخبير الى انه من دون إعادة بناء الثقة، لن تنفع أي معالجات ولن يفيد ضَخ المصرف المركزي للدولارات في السوق حتى لو تدفّقت المليارات منها، «لأنّ السوق المثقوبة ستبتلع أيّ مبلغ مهما بلغ حجمه».
ويلاحظ الخبير أنه يجري إلهاء اللبنانيين بمسائل جانبية، من قبيل انخفاض سعر الدولار منذ ايام من 10 آلاف ليرة الى 8 آلاف، «حيث راح البعض يُهيّص فرحاً ويستبشر خيراً، متجاهلاً انّ الصرخة ارتفعت أصلاً عندما تجاوَزت قيمة العملة الصعبة سقف الـ2000 ليرة».
ومن المفارقات التي يتوقف عندها الخبير هو انّ الناس انتفضوا عندما جرى رفع كلفة الواتساب بعض السنتنات وعندما كان نزيف الليرة لا يزال بطيئاً بالمقارنة مع الوضع الحالي، بينما لم يثوروا حين قفز سعر الدولار آلاف الليرات خلال وقت قصير، وحين ارتفع سعر ربطة الخبز التي تحمل الكثير من الرمزيات ويفترض انها تشكّل مادة حيوية لا يمكن التلاعب بها».
وأمام هذا الواقع، لم يعد الخبير يستغرب كيف انّ الطبقة السياسية التي تعرف جيداً تركيبة الجماهير، لا تزال تتصرف وكأنها مطمئنة الى انّ الامور ستبقى تحت السيطرة وان اهتَزّت قبضتها احياناً، «ولماذا عليها أن تقلق ما دام ان ليس لدى بعض الناس أيّ حرج في أن يرقصوا ويبتهجوا على وَقع موّال حول ارتفاع الدولار في احد المنتجعات السياحية، مع ما ينطوي عليه هذا التصرف من دلالات تؤشر إلى الاستعداد لتَقبّل كل شيء مهما بَدا قاسياً».
ويشعر الخبير انّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة قرر ان يُماشي السياسيين، «على قاعدة وَين بَدّو صاحب الحمار ربطو»، مضيفاً انّ الخشية هي من استنزاف موجودات البنك المركزي نتيجة ضَخ العملة الخضراء في هاوية من دون قعر، بحيث قد نصبح بعد نحو عام او اكثر بقليل امام خطر مجاعة حقيقية نتيجة احتمال الوقوع في العجز عن تأمين الاحتياجات الاساسية اذا لم يتم استقطاب الدولار مجدداً، وبكميات كبيرة، الى الداخل.