في لمحة سريعة لتقييم أداء الحاكم رياض سلامة في المصرف المركزي نجد أنه بنى سياسة النقد في لبنان بعد الحرب الأهلية، وأعاد وقتها الثقة بالليرة اللبنانية، وساعد في نجاح الرئيس الشهيد رفيق الحريري، رحمه الله، بمشاريعه العمرانية، وبإعادة بناء البنية التحتية للوطن، وإعادة الإعمار الذي كان يحتاج إلى تمويل ضخم أمّنته له سياسات الحاكم سلامة لاعتماده سياسة تثبيت سعر الصرف عند الألف والخمسمائة ليرة، وكان حينها يسعى بكل جهده لزيادة حجم الناتج المحلي الإجمالي ودعم الاستثمار والقطاعات الإنتاجية والخدماتية في آن معاً، حتى أنني أذكر أنني طلبت منه منذ نحو خمس عشرة سنة دعم الطلاب في دراساتهم العليا، فاستجاب لي وأمّن تمويل تعليم الطلاب بدعم من المصرف المركزي، وبفضله تعلّم عدد ضخم من الطلاب في لبنان والخارج بقروض مدعومة، ولكن للأسف فإن الحاكم يفضّل الصمت على كل الاتهامات الباطلة التي يكيلها له البعض، لأسباب معروفة، لا سيما أنه كان فيما مضى المرشح الأبرز لرئاسة الجمهورية، وكانت الجوائز العالمية تنهال عليه يمينةً ويَسرَةً، لدرجة أنه كان الحاكم العربي الوحيد الذي دَقَّ جرس المداولات في بورصة نيويورك تكريماً لانجازاته، ولكن عندما انهارت الليرة اللبنانية نتيجة فساد السياسيين، وصفقاتهم المشبوهة، لا سيما في قطاع الكهرباء، والأربعون مليار دولار أميركي التي صرفت على الكهرباء والتي كانت كفيلة بإضاءة الصين بأكملها على مدار مئة عام و٢٤/٢٤، كان هنالك ضرورة لتحميل شخص ما مسؤوليات ثمانية مائة مليار دولار منهوبة ومودعة في مصارف الخارج، وكان كبش المحرقة الوحيد هو الحاكم رياض سلامة، نظراً لأنه أكاديمي اقتصادي بعيد عن السياسة ومزاريبها وهو ينفذ سياسات الحكومات المتعاقبة، ويلتزم بمقرراتها، فعلى سبيل المثال لم يكن هو وراء اتخاذ قرار التوقف عن تسديد ديون لبنان الخارجية وعدم جدولة ديونها، ولم يكن هو أيضاً وراء قرار عدم الاستجابة للإصلاحات التي وضعها صندوق النقد الدولي ولا وراء سياسة الدعم التي كانت تطلبها الحكومات ولا حتى وراء تهريب البضائع والسلع المدعومة للخارج، ما كان السبب الرئيسي بفقدان الليرة لقيمتها، ولتحقيق كبار التجار والمضاربين أرباح خيالية. وما يؤكد أن سلامة جدير بالمركز الذي يشغله، ويدير سياسة نقدية حكيمة، أن نواب الحاكم اليوم يتجهون نحو الاستقالة، ويصرّون على تحميل النواب والحكومة كامل المسؤولية عن الانهيارات المالية المقبلة في حال استمروا بمهامهم، ولذلك تراهم يطلبون العصفور ولبنه معاً، ويصرّون على ضرورة إقرار تشريعات الكابيتال كونترول وهيكلة القطاع المصرفي ومعالجة فجوة الخسائر ومصير الودائع، ويصرّون أيضاً على زيادة إيرادات الدولة من مرافقها العامة كمعالجة التعدي على الأملاك البحرية مثلاً، ويطلبون بإطلاق منصة جديدة غير منصة صيرفة من شأنها أن ترفع سعر صرف الدولار تدريجياً، كما يطالبون بتغطية قانونية رسمية لتمويل الدولة، وبخفض التمويل إلى أكثر من النصف مما سوف يؤدي بكل تأكيد إلى تخفيض رواتب القطاع العام وإنهاء دعم الأدوية المستعصية بشكل نهائي. لا بل حتى إن استقال نواب الحاكم وتم تكليفهم بمتابعة عملهم، فسوف يمارسون الخطط السابقة التي عرضوها على لجنة الإدارة والعدل وبحثوها مع الرئيس ميقاتي، وهذا ما سيؤدي لانهيار الليرة وارتفاع سعر صرف الدولار لمستويات قياسية وإلى غلاء فاحش وعجز بتسديد الرواتب وصرف عدد كبير من موظفي القطاعات الخاصة، وارتفاع بأسعار المحروقات والدواء والاستشفاء، فهل الحكومة مستعدة لتحمّل كوارث اجتماعية وانتفاضات جديدة في الشوارع، نتيجة عدم تبنّيها خيار التمديد للحاكم الفقيه بمهامه، رياض سلامة؟ لا بل ما هي الخبرات الاقتصادية والمالية التي يمتلكها نواب الحاكم التي تمكّن من إنقاذنا من مستنقع الفقر المدقع والجوع والحرمان؟ لا بل الأصح أن نائب الحاكم الأول هو من سوف يمارس صلاحيات الحاكم في حال استقال ثم تم إعادة تكليفه وسائر النواب بتصريف الأعمال، وكل الكلام عن المسؤولية الجماعية لنواب الحاكم الأربع مخالفة لقانون النقد والتسليف، وهدفها الوحيد التنصل من مسؤولية الانهيارات المقبلة وتحميلها لآخرين. أما الكلام عن أن استقالة النائب الأول للحاكم من شأنها أن تلغي تطبيق المادة 25 من قانون النقد والتسليف المتعلقة بممارسة النائب الأول لصلاحيات الحاكمية في حالة الشغور، وتصبح المادة 27 من ذات القانون التي تتحدث عن غياب الحاكم وإمكانية حلول نائب الحاكم الثاني محل النائب الأول في حال تعذّر على الأول القيام بمهامه، فهي تشكّل طرحاً سخيفاً، ولا علاقة لمن ينادي به بالقانون لا من قريب ولا من بعيد، لأن الجميع يعلم أننا في حالة شغور ولسنا في حالة غياب، وحتى طلابنا في سنة أولى حقوق يعلمون الفرق بين المفهومين، وهذا أمر بديهي دون أدنى شك. كيف ستكون المرحلة الانتقالية على الصعيد النقدي والمالي إذن؟ على ما يبدو أننا فعلاً هذه المرة ذاهبون إلى جهنم، ومن المعروف من هو المسبب الحقيقي لذلك، وكفى كذباً على الشعب المسكين الذي أفقره السياسيون وجوّعوه ونعموا بمئات مليارات دولاراته المودعة بالخارج، ولكن هل سيفيق حكام الظلام من سباتهم العميق وينقذون البلد من كرة النار التي تتدحرج شيئاً فشيئاً لتخرّب اقتصاد ونقد البلد من خلال التجديد لسلامة؟ الأمر المرهون بمدى جرأة الحكومة على اختيار الحل السليم في الثماني والأربعين ساعة المقبلة.