صبغة فاستجواب فاستشارة وطلاق…
التباعد الاجتماعي هو حجر الزاوية في بنية الحرب على وباء الكورونا، وهو مصطلح لئيم أبعد الناس عن بعضهم ووضع بينهم مسافة أقلها متران وأبعدها آلاف الكيلومترات. لكن لحسن الحظ جاء التقارب الرقمي ليكسر حدّة التباعد الاجتماعي، ويقرّب المسافات بين الناس ويعيد تشغيل عجلة الحياة المتوقفة. في كنف الدولة، كما في البيوت صار الكمبيوتر قلباً ثانياً ينبض بكل الانفعالات والانشغالات الإنسانية. حب ولعب ومزح وجد… كلها على شاشة واحدة.
إنه زمن الكورونا الذي أدخل لبنان مرغماً الى العالم الرقمي وجعله يتشبه رغماً عنه بركب تلك الدول الراقية التي تسابق المستقبل وتسيّر شؤونها كافة من خلف شاشات جامدة تطال العالم. والدولة اللبنانية التي تمرست بـ”التخبيص” في وسائل إدارة الدولة التقليدية تواكب التطور الرقمي بخطوات متعثرة. تسعى، وسعيها مشكور في هذا الزمن الصعب، الى بعض إنجازات عن طريق العالم الرقمي فتصيب حيناً وتتعثر أحياناً اخرى.
في مجال القضاء، شكل التحول الرقمي إنجازاً حقيقياً ساهم في البدء بحل مشكلة اكتظاظ السجون التي كانت تنذر بالتحول الى قنبلة تنفجر بوجه الوطن بأكمله. وزيرة العدل أطلقت العجلة وطلبت من الرئيس الأول بالإنابة لمحكمة إستئناف بيروت القاضي حبيب رزق الله إيداعها تقريراً دورياً أسبوعياً حول الإستجوابات عن بعد وطلبات تخلية السبيل وذلك بناء على التعميم الذي أصدره مجلس القضاء الأعلى الذي نص على استجواب المدعى عليهم عن بعد بواسطة الوسائل الإلكترونية، سواء أكانوا محتجزين أم موقوفين.
وقد عمل قسم المعلوماتية التابع لوزارة العدل لتجهيز المكاتب بما يلزم من وسائل إلكترونية لهذا الغرض وأبرزها برنامج زووم، وباتت جلسات الاستجواب تجرى في أحد هذه المكاتب يرأسها قاضي التحقيق، بحضور المدعي الشخصي ووكيله ووكيل المدعى عليه عند الإقتضاء، وبحضور مندوب الأحداث في حال استجواب قاصر وبالطبع يمكن أن تتم الإستعاضة عن الحضور الشخصي للموقوف ولهؤلاء، عبر حضورهم عن بعد بواسطة الاتصالات السمعية-البصرية الإلكترونية.
الاستجوابات الالكترونية بدأت إذاً ولو بوتيرة بطيئة وبدأ القضاة في الشمال وبيروت يعتمدونها لاستجواب الموقوفين وإصدار بعض الأحكام، حتى ان القاضية جوسلين متى قررت بناء على هذه الاستجوابات ترك أربعة موقوفين بكفالة.
غرفة عمليات
نقابة المحامين بدورها تلقفت الأمر وأنشأت غرفة عمليات طارئة لتعمل بشكل إلكتروني على إعداد ملفات إخلاء سبيل للموقوفين في السجون وتقديمها عبر الإيمايل الى القضاة بغية تسريع عملية البت فيها.
وكشف نقيب المحامين ملحم خلف لـ”نداء الوطن” أن غرفة العمليات هذه “تشتغل بشكل متواصل وقد استطاعت ان تنجز في 48 ساعة ما كان يحتاج الى 7 أو8 سنوات من العمل سابقاً. والتعاون عن بعد بين المحامين والقضاة بات أمراً ممكناً وطبيعياً في هذه الظروف لا سيما بعد ان زودت قصور العدل بكل ما يلزم من تقنيات التواصل وقد بات بإمكان القاضي أن يقوم بلقاء على شاشة واحدة مع الموقوف ومحاميه. ويؤكد النقيب أن أكثر من189 حكماً بإخلاءات سبيل قد صدرت ونفذت بعد ان كانت قد أرسلت الى القضاة بواسطة الإيمايل للبت فيها. وهذا التعاون برأي النقيب يؤدي للوصول الى العدالة بشكل أسرع “ولا يهم أكان السبيل ورقياً تقليدياً أم الكترونياً يواكب التطور”.
أما كيف تتم عملية إخلاء السبيل إلكترونياً “فالطريق تبدأ بأن يرسل المحامي ملفه جاهزاً الى غرفة عمليات النقابة بواسطة الأيمايل، فيعمل المحامون فيها على رفعه الى القاضي المختص الذي يدرسه عن بعد من بيته أو مكتبه ويبتّ فيه، وبعدها تبلغ النتيجة الى محامي الموقوف والى السجن ليصار الى تخلية سبيله إذا أقرت التخلية”.
فشل إلكتروني يواكب الفشل التشريعي
إذا كانت الدولة وعبر بوابة القضاء ونقابة المحامين قد نجحت في استحقاق العدالة الالكترونية فلا شك أنها فشلت حتى اليوم بالتشريع الالكتروني، وما حكي عن جلسة عامة لمجلس النواب سوف يتم عقدها عن بعد لم يتحقق حتى الآن، ولا يبدو أنه سيتحقق في وقت قريب وفق ما صرح لنا به النائب الياس حنكش. فهذا النائب الشاب الذي سبق له أن اختبر العمل السياسي اونلاين داخل حزب الكتائب الذي اجتمع مكتبه السياسي ولجانه وتداولوا وقرروا عبر تقنية zoom، أراد أن يكرر التجربة في مجلس النواب، فاقترح على أمينه العام ان يتم عقد جلسة عامة عن بعد لا سيما بوجود امور ملحة ومستعجلة تستوجب البحث. وتم اقتراح استخدام برنامج Microsoft team وبالفعل بدأ الفريق التقني في المجلس الإعداد للأمر وأنزل الكثير من النواب هذا التطبيق.
لكن يبدو وفق معلوماتنا أن ثمة عدداً من النواب لا يزالون يعيشون ربما في القرن الماضي أو ما سبقه ولم يستجيبوا للأمر بعد. فالتأخّر الإلكتروني بات سمة من سمات المجلس إذ حتى قانون التصويت الإلكتروني الذي قدمه الشيخ سامي الجميل في العام 2012 للاستعاضة عن التصويت برفع الأيدي لم يتم إقراره حتى اليوم.
يضيف النائب الياس حنكش قائلاً: “كنا ننتظر ان يتم إجراء جلسة تجريبية وقد حضرنا لها، لكن لا الجلسة التجريبية عقدت ولا تمت الدعوة إليها ولا الجلسة العامة عن بعد يبدو أنها ستعقد. الواضح ان هناك تردداً في عقد جلسة مماثلة خوفاً من عدم قانونيتها ربما او من ان تخرق سرية الجلسة ومقرراتها ربما بواسطة المقرصنين. ويبدو ان الرئيس بري يتجه الى عقد جلسة طبيعية في المجلس بحضور الجميع مع اتخاذ كل إجراءات الحماية الضرورية”.
ولكن ماذا عن اللجان ألا تستطيع الانعقاد عن بعد؟ “بلى، يقول حنكش وقد سبق للجنة الاقتصاد ان عقدت اجتماعاً أونلاين وخرجت ببيان وليس بمقررات رسمية إذ لم يسجل المحضر ولا يعتبر رسمياً”.
ولكن كلمة حق تقال لسنا الطش في التشريع الإلكتروني فحتى اليوم لم يعقد أي برلمان في دول العالم جلساته إلكترونياً، ولكن الأكيد الأكيد أن مشرّعيه وسياسييه ووزراءه يعملون بكل طاقاتهم لإنقاذ بلدانهم من خطر الكورونا وتسيير شؤون مواطنيهم.
إستجابة إدارية سريعة ولو عن بعد
في المجال الإداري يفرض الأونلاين نفسه كحل ضروري لا غنى عنه في هذه الظروف القاهرة ولا سيما في المجالات الملحة التي تتطلب استجابة سريعة مثل موافقات الضمان او الحصول على أدوية الأمراض المستعصية. فهل حالها أفضل من حال التشريع؟
لقد حاول المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، الدكتور محمد كركي، أن يسهل أمور المضمونين ويجنبهم الحضور إلى مراكز الضمان التي تشهد اكتظاظاً كبيراً في العادة، وان يخفف ايضاً عن موظفي الضمان المعروفين بقلة صبرهم على المضمونين وتأففهم الدائم من عجقة هؤلاء في المراكز. فقام بإصدار مذكرة تقضي باعطاء الموافقات على الاستشفاء والأعمال الطبية بطريقة الكترونية، بحيث ترسل ادارة المستشفى المتعاقد مع صندوق الضمان طلب الحصول على موافقة مؤخرة على الاستشفاء في الحالات الساخنة او الباردة عبر البريد الالكتروني، ويرفق الطلب بالمستندات الضرورية ليقوم بعدها رئيس المكتب بإتمام المعاملة وإرسالها الى المستشفى.
لكن طلبات الحصول على الأدوية للأمراض المستعصية كما تقديم الفواتير من قبل المضمونين الذين ينتظرون بلهفة تحصيل مستحقاتهم من الضمان لم يجد له حلاً بعد لا عن قرب ولا أونلاين، والعمل جار على حل المشكلة وإيجاد طريقة للقيام بذلك عن بعد. ولا تزال الحلول الالكترونية مجرد اقتراحات ومنها الربط الإلكتروني مع الصيدليات، وبالتالي تحويل المعاملة من يد المريض إلى يد الصيدلية، بحيث يحصل الأول على دوائه من الصيدلية، ثم تعمد الأخيرة إلى تقديم الفاتورة إلكترونياً إلى الضمان. الصندوق جاهز تقنياً بحسب مسؤوليه للمباشرة بهذه الآلية فوراً. لكن الأزمة على ما يبدو ليست تقنية ولا في التواصل بل هي أزمة عدم ثقة الصيدليات بالحصول على مستحقاتها في الوقت المحدد من الضمان الاجتماعي.
بالبعد عشقان… بالقرب عشقان
بعيداً من الدولة ومسيرتها المتخبطة تمشي القطاعات الأخرى بخطوات سريعة في عالم الأونلاين على وقع مخاطر الكورونا. فيصبح الحب وربما الزواج أونلاين في زمن التباعد الاجتماعي والطلاق حتماً أونلاين في زمن الحجر المنزلي. حتى الصبغة والكريم دوجور أونلاين ومثلهما غداء يوم الأحد والطلبات المنزلية.
في وقت تتباعد فيه الأجساد يمكن للقلوب أن تتقارب من خلال جلسات سكايب مطولة أو”فيديوكولات” ليلية تقرب الحبيبين من خلال شاشة باتت أكثر حميمية من لقاء على شاطئ أو موعد تحت شجرة. ولكن ماذا لو تسارعت الأمور ولم يعد باستطاعة الحبيبين الانتظار، هل يمكن لعقد القران ان يتم أونلاين أيضاً؟
ثمة سابقة في لبنان أثارت الجدل حين قام الشاب بشير فاخوري الذي يعيش في الولايات المتحدة بالاقتران بخطيبته حوراء سعيد من مدينة صور الجنوبية عبر السكايب، الذي اختصر المسافة بين الحبيبين وشكّل وسيطاً للجمع بينهما وقام الشيخ علي مغنية بعقد قرانهما في منزل والد العروس بحضور الأهل والأصدقاء. ووكلت العروس الشيخ بعقد القران فيما جرى التواصل مع العريس بالصورة والصوت عبر سكايب وفي حضور أهله وأصدقائه. وبعد إتمام صيغة العقد وعلى مسمع الجميع أعلن الشيخ الشابين زوجاً وزوجة وبارك لهما زواجهما متمنياً دوام السعادة والتوفيق. هذا الزواج اثار وقتها الكثير من اللغط حول شرعيته، ولكن ماذا تقول دار الفتوى اليوم عن زيجات يمكن ان تعقد عبر السكايب في زمن التباعد الاجتماعي؟
التعارف عبر هذه الوسائط ممكن بالطبع ولكن ما الفائدة من عقد القران إن كان العريس لا يمكنه الاتصال بعروسه وفق ما يقول احد المسؤولين في دار الفتوى. ليكون عقد القران شرعياً يجب ان يكون خطياً وبوجود شهود. في حال عدم تواجد العروس يمكن لها ان ترسل توكيلاً بالإيمايل أو عبر الهاتف او الواتساب او بواسطة رسالة الى أحد الأقرباء او الى الشيخ، ليكون وكيلها ويحل محل الأصيل الغائب ويقوم الشيخ بناء على هذا بعقد القران، لكن العقد لا يصبح شرعياً إلا بعد أن يدوّن.
هذا إذاً بالنسبة للزواج الذي يبقى حبراً على شاشة ما لم يدون في السجلات. ولكن ماذا عن الطلاق في هذه الظروف الصعبة التي باتت فيها خلافات المتزوجين تشكل مادة دسمة للتندر والتنكيت؟ هل يمكن للزوج ان يرسل لزوجته عبر الواتساب رسالة صوتية يصرخ فيها قائلاً أنت طالق؟ نعم الأمر ممكن !!! وقد يحدث الطلاق عبر الواتساب او سكايب وأخواتهما. لكن اطمئنوا فالطلاق لا يصبح نافذاً إلا بعد تثبيته. وهذا يتطلب إجراءات شرعية وقانونية متعددة. فالطلاق الذي يبت فيه شفهياً في البداية يجب رفعه الى المحكمة لتثبته بناء على دعوى تنظر في أسبابه ومقتضياته.
إستشارات نفسية وتجميلية أونلاين
إذا كان الزواج والطلاق أمرين دقيقين يصعب التعامل معهما عن بعد، فالصحة النفسية في المقابل تقتضي مشاكلها الملحة التعامل معها عن بعد لمحاولة استيعابها والتخفيف من آثارها في ظل مناخ الخوف والقلق والتوتر الذي يعيش فيه معظم الناس. من هنا أطلقت عيادات MIND للصحة النفسية مبادرة جديدة تسمح للمرضى بالاتصال بالطبيب عبر السكايب او الفيديوكول لإجراء جلسة علاجية من منازلهم. وتكون جلسة الاونلاين مثل الجلسة العينية، بناء على موعد مسبق من العيادة وتستمر ما بين نصف الى ثلاثة أرباع الساعة. ويقابل الطبيب مريضه وجهاً لوجه إنما من خلف الشاشة ،أما “الفحصية” فتدفع إما بتحويل مالي عبر المصرف او شركات التحويل المختصة او تدفع لاحقاً حين يصبح بإمكان المريض القدوم الى العيادة.
حتى الذين لم يسبق لهم أن التقوا بطبيب نفسي يمكنهم القيام بالزيارة الأولى عن بعد حيث تقوم مساعدة الطبيب عبر الهاتف او السكايب بأخذ كل المعلومات اللازمة بجلسة قد تطول الى ساعتين ونصف، لتحولها بعدها الى الطبيب الذي يلتقي بعد ذلك بالمريض عن بعد في جلسة علاجية تبقى هي الحل الأنسب في هذه الظروف العصيبة، بانتظار ان تنحسر موجة العزل المنزلي ويتم اللقاء الوجاهي.
مشاكل الناس لا تنتظر والحلول تفرض نفسها وكلما كانت المشكلة أصعب كلما كان الحل مبتكراً. وهل أصعب من مشكلة الشعر الأبيض عند السيدات هذه الأيام وهل أقسى من عدم قدرتهن على الذهاب عند الكوافير في زمن التعبئة العامة؟ لكن الحل جاء مرة جديدة من خلال الأونلاين. ريشار وهو مزين معروف في منطقة الرابية ابتكر طريقة جديدة للتواصل مع السيدات: يتصلن به، يرسلن صورة لهن، يدرس لون شعرهن فيعد تركيبة الصبغة المناسبة بمقاديرها ومزيج الوانها، يوضبها ويرسلها إليهن على جناح السرعة قبل أن تفسد. هنا تكون السيدة قد أعدت نفسها وجلست مقابل الشاشة واتصلت بريشار عبر السكايب الذي يقوم بإرشادها كيف عليها ان تضع الصبغة في البيت وعلى أية مناطق من شعرها يجب ان تركز. وبعد انقضاء الوقت المفترض للصبغة يعاود الاتصال بها ليذكرها بوجوب غسلها ويتأكد من أن كل شيء سار على ما يرام. والأمور هنا كما في عيادة الصحة النفسية تجري وفقاً لمواعيد مسبقة حتى يتمكن ريشار من متابعة كل زبونة على حدة ويأخذ وقته بإعطاء الإرشادات الضرورية والرد على استفهامات كل سيدة.
مثل الصبغة، الكريم دوجور له مكانته في دورة الجمال عن بعد، وتقول إحدى اختصاصيات التجميل أنها لم تترك ابداً زبائنها ولم يتركنها بل هن على تواصل دائم معها. ترسل لهن الكريمات إذا ما احتاجوا الى عبوات جديدة وتجيب عن اسئلتهن حول ما يتعرضن له من مشاكل جلدية في حجرهن المنزلي. فللعينين المتعبتين مثلاً مساج خاص تعلمه لهن عبر فيديوكول على الواتساب، واستخدام الماسك المنزلي بحاجة الى مراقبة حثيثة تقوم بها معهن عبر الـ speaker.
وهكذا يتحول الحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي الى فرصة حقيقية لوضع الرجل على أولى درجات سلم الإرتقاء الرقمي، والدخول في نادي الدول المتحضرة التي صار الأونلاين المرادف الثاني لاسمها.