التصدّع الاجتماعي بات يفرض نفسه كمعطى لبناني أساسي. المكابرة عليه، التخفيف منه، عزوُه إلى الحدثيّ والآنيّ فقط لم يعُد مفهوماً. كما أنه معطى لا يمكن اختزاله في الأزمة الاقتصادية وحدها، أو ردّه إلى أزمة التركيبة السياسية وحدها.
بطبيعة الحال، هذا المعطى له حيثيته القائمة بذاتها، المتأتّي من فشل مزمن كيانيّ ودولتِيّ ونظاميّ في النهوض بالعناوين السيادية، كما في العناوين الاجتماعية، وفي اصطناع جدل أولويات عقيم على هذا الصعيد لم يؤدّ إلّا الى تفريغ كل مقولة، سيادية كانت أو اجتماعية، من مضمونها. لكن التصدّع الاجتماعي هنا كثيراً ما يجري مسخه في بعض الطروح العبثية الى نقيضه، لأن ما يجري المكابرة عليه هو انغلاق قنوات التفاوض الاجتماعي التي كانت، حتى بشكل جزئي ومبتور، قائمة في البلد، ذات يوم.
الحيثية الفعلية لهذا التصدّع الاجتماعي لا تحول في الوقت نفسه دون ظهور مسعى توظيفه، بشكل فئوي، تغلّبي، مثلما لا يمكن لأي توظيف فئوي له ان يفلت تماماً من مغبّة خروج دينامية التصدّع الاجتماعي عن “السيطرة”.
الضغوط الاجتماعية تزداد. في المقابل قنوات التفاوض الاجتماعي مُتلفة، والمؤسسات السياسية مُعرقَلة. لا يعني هذا أننا ماضون حتماً نحو فترة تتصاعد حماوتها، لكن حصتنا من الخلخلة الاجتماعية التي يبدو أنها ستتنقل أكثر فأكثر بين البلدان ليست بالحصة السهلة، ولا يمكن الرجاء في مقاربة ناجعة لها من دون إعادة ربط القضايا الاجتماعية بالعناوين السيادية، أو أقلّه عدم توهّم إمكانية عزل القضايا الاجتماعية عن العناوين السيادية ثم التصرف كما لو ان هذا العزل هو الواقع. لا، هو بالأحرى انفصال عن الواقع، مثلما هي العناوين السيادية حين تنفصل عن معاش الناس، والمصالح المختلفة لفئاتهم المختلفة، والمصالح المادية المشتركة للعدد الأكبر من المواطنين، تتحوّل هي الأخرى الى مقولات مجرّدة وكئيبة.
نحن، بالأساس، ندفع منذ سنوات ثمن عدم التمكّن من تشكّل كتلة تاريخية واسعة وصلبة قادرة على الجمع في آن واحد بين المنطلقات السيادية الأساسية، وبين عناوين إصلاحية محورية تتطلّع الى ملاقاة المصالح المباشرة والحياتية للعدد الأكبر من الناس. بدلاً من هذا، أدى الابتعاد بين السيادي وبين الاجتماعي، الى محاصرة كل منهما.
قد تكون هناك أساساً عراقيل موضوعية وبنيوية حالت أساساً دون تبلور هكذا كتلة تاريخية، وقد يكون التركيز على العوامل الذاتية التي بدّدت رصيداً تراكمياً في هذا الاتجاه يحمّل الامور والوقائع والقوى فوق طاقتها، وقد يطول الجدل بين الموضوعي والذاتي، وبين الهياكل والإرادات، وبين الاعتبارات الكبرى العابرة للبلدان وما في المتّسع المبادرة اليه وصنعه في بلد صغير محاصر بمشكلات مستعصية ومستفحلة. يبقى أن التصدّع الذي نراه، نعيشه، لا يمكن اختزاله في قراءة “سياسية آنية بحتة”.
البلد أمام منعطف. إذا كان العام الموشك على الانتهاء قد انقسم عندنا بين الانهماك في انتخابات نيابية وبين مراكمة حلقات عرقلة تشكيل الحكومة، فإن العام الآتي يطرح نفسه وبإلحاح على أنه عام التسابق بين مسارات التصدّع من تحت ومن فوق، من بعد التعطيل، وبين مسارات إعادة تشكيل أنوية التماسك الاجتماعي، وهذا لن يكون متوفراً، حتى نظرياً، من دون وجود نقطة ربط بين المقولات السيادية والاجتماعية.
الانفصال عن الواقع، بابتغاء حرية من دون خبز، أو خبز من دون حرية، هو في أساس المشكلة التي يعاني منها البلد، وتجعله قابلاً للاستتباعات الخارجية، والتغلّبية الفئوية داخلياً، مع اتصال هذه بتلك. لكن الطامة الكبرى أن هذا الانفصال عن الواقع هو واقعنا بالنتيجة، في حين أن الدعوة إلى إعادة التشبيك بالواقع، إعادة ربط السيادة بالاجتماعي، أشبه ما تكون في ظروفنا الحالية بالخيالية، المعزولة، التي لن يكترث لها أحد.