كأنّه لا يكفي اللبنانيين ضغط الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والصحية والسياسية، فأتى الهاجس الامني الداهم والموثق بالأرقام ليزيدهم خوفاً على الحاضر والمستقبل، وسط تحذيرات من «الآتي الاعظم»، ما لم يتمّ لجم وتيرة الانهيار والانحدار في اقصر وقت ممكن.
هزّت جريمة الكحالة في ظروفها وملابساتها الواقع اللبناني الهش، وفتحت الباب على سيل من علامات الاستفهام التي تنتظر أجوبة شافية، ليس فقط لمعرفة الحقيقة وإنما أيضاً لمحاولة ترميم الأمان المثقوب، عشية الأعياد.
ولعلّ ما زاد من وطأة الحادثة ودويها، انّها موثقة بالصورة الحية عبر كاميرات المراقبة، وهو الأمر الذي سمح بملاحظة حجم الحرفية في تنفيذها وبرودة أعصاب مرتكبيها، الذين لم يرف لهم جفن او اصبع خلال إطلاق النار على المغدور الشاب جو بجاني.
وقد استرعى الإنتباه استخدام سلاح كاتم للصوت في تنفيذ الجريمة، الأمر الذي عزز انطباع المحققين بأنّ ما جرى يتجاوز حدود الحادثة الفردية الى سيناريو اكثر تعقيداً.
ولم يكن دم الضحية قد جفّ حين بدأت الاستنتاجات تخرج من هنا وهناك، رابطة تارة الجريمة بانفجار المرفأ، وطوراً بجرائم قتل سابقة، علماً انّ طبيعة عمل المجني عليه كمصور وموظف في شركة الاتصالات «ألفا»، ساهمت في زيادة التأويلات.
وترافقت الجريمة مع خشية متفاقمة من الإنزلاق نحو مزيد من الفوضى واعمال العنف المتنوعة الأشكال، على وقع المأزق السياسي والانهيار الاقتصادي، اللذين يدفعان لبنان اكثر فأكثر نحو المنطقة الواقعة خارج «قانون الجاذبية» حيث لا ضوابط ولا ضمانات.
ومن الواضح، أنّ الساحة اللبنانية باتت منذ مدة مكشوفة أمام تهديدين: الاول يتصل بتداعيات اتساع رقعة الفقر وما يرتبه ذلك من تفاقم حوادث السرقة والقتل وما شابه، والثاني يرتبط بخطر الاغتيالات السياسية والاختراقات المخابراتية. والمفارقة، انّ أغلب قوى السلطة لا تزال تتعاطى مع التهديدين بخفة، على الرغم من الحاجة الضرورية الى وجود مظلة سياسية لأي استقرار أمني او انقاذ اقتصادي.
ويقول وزير الداخلية في حكومة تصريف الاعمال العميد محمد فهمي لـ»الجمهورية»، انّ جريمة الكحالة منظّمة «ومن نفّذها هم محترفون وليسوا هواة»، لافتاً الى انّ الاجهزة الأمنية تنكبّ على كشف ملابساتها، والمعلومات التي تمّ تجميعها هي قيد التحليل، ونأمل في أن تؤدي إلى كشف الخيوط.»
ويستبعد وجود علاقة بين جريمة الكحالة وجرائم أخرى حصلت في الفترة الأخيرة، داعياً الى عدم استباق التحقيق وإطلاق فرضيات سابقة لأوانها، وملاحظاً انّ هناك من يستسهل ان يتحول بين ليلة وضحاها خبيراً أمنياً ومحققاً جنائياً، على قاعدة ان «لا جمرك على الحكي».
وبينما يبدي فهمي اطمئناناً الى القدرة على مواجهة اي خطر إرهابي، يعرب في المقابل عن تخوفه من المخاطر التي تواجه الأمن الاجتماعي الآخذ في الاهتزاز تحت وطأة الازمة الاقتصادية والاجتماعية، مشيراً الى انّ الاحصاءات تُبين انّ ارتفاعاً سُجّل اخيراً في نِسب حوادث السرقة والسلب، بمعدلات تدعو الى القلق وتدقّ جرس الإنذار.
ويوضح فهمي، انّ ما يخشاه هو ان تتفاقم الأمور مستقبلاً اذا بقيت الازمة على حدّتها، محذّراً من انه يمكن أن تحدث بعد حين جرائم قتل من أجل سرقة مبلغ صغير من المال.
ويشدّد فهمي على أنّ معالجة تحدّيات الأمن الاجتماعي ليست ميدانية حصراً ولا تتحمّل مسؤوليتها الأجهزة الأمنية فقط، «بل هي معالجة سياسية- اقتصادية بالدرجة الأولى، ويجب أن تتولاها الدولة عموماً، بحيث لا تُلقى كل الاعباء على الأجهزة وحدها».
وينبّه الى انّ الأمن الاستباقي لا يفيد في مواجهة مثل هذا الوضع، «إذ لا يمكن توقّع متى يمكن أن يلجأ شخص مسحوق الى السلب او القتل للحصول على قوته اليومي او لإطعام أفراد أسرته»، داعياً المعنيين الى استدراك الموقف قبل فوات الأوان.
الأرقام تتكلم
وتعكس الوقائع على الارض دقّة المرحلة التي يمرّ فيها لبنان دولة ومجتمعاً. إذ تُظهر ارقام قوى الامن الداخلي، انّ عدد القتلى في جرائم ارتفع من 109 عام 2019 الى 193 حتى تشرين الثاني 2020، وعدد السيارات المسروقة ارتفع من 724 عام 2019 الى 1172 حتى تشرين الثاني 2020.
كذلك ارتفع عدد السرقات الموصوفة (الموثقة) من 1610 عام 2019 الى 2252 حتى تشرين الثاني 2020، وعدد حوادث السلب (غير السيارات) من 247 عام 2019 الى 556 حتى تشرين الثاني 2020، وغيرها من الإحصائيات المشابهة التي تدقّ جرس الإنذار.
وتنشر «الجمهورية» مقتطفات من جدول احصائي اعدّته عمليات قوى الأمن الداخلي حول معدلات الحوادث الجنائية من عام 2019 حتى تشرين الثاني 2020.