Site icon IMLebanon

في ذكرى 13 نيسان، عن الاقتصاد في دعم الاستقرار؟

 

 

«غداة لوّحت بالآمال باسمة

لانَ الذي طاحَ وانقاد الذي جَمح

فالروض مهما زَهت قفر إذا حرمت

من جانحٍ رفّ أو مِن صادحٍ صدح»    (الأخطل الصغير)

التوازن الوطني هو كتلة من النظريات الاجتماعية، تتداخل فيها مجموعة واسعة من الأحاسيس والمشاعر الفردية والجماعية، داخل منظومة اجتماعية ما. هي الحال التي ينتج منها التنافر أو التقارب بين مكوّنات المجتمع، وهي حال متحركة وغير ثابتة عبر الزمن. هي تستند عادة إلى وجهات نظر متشابكة للأفراد، تدعم التماسك الاجتماعي أو تضعفه، وفي حال خروجها عن مبدأ التوازن، ستؤدي حتمًا الى تفكّك المجتمع لمجموعات متعددة، أساسها تماسك داخلي في الجماعة المعنية وتنافر ونزاع مع الجماعات الأخرى.

 

أما الاستقرار، فمعياره هو المستوى الذي تصل فيه منظومة أسس الحياة للفرد وللعموم إلى الموثوقية والفعالية، فتتحوّل بديهيات عادية تحمي الأفراد من المتغيرات والصدمات والمخاطر والطوارئ وتخفّف من وطأتها في حال حدوثها. منظومة أسس الحياة هي التي تحفظ التشابك الإيجابي بين الأفراد، فيما بينهم، وبينهم والمقدرات الاجتماعية المشتركة بنحوٍ يدعم التطلعات المجتمعية.

 

من هنا، فإنّ الحالتين تستندان إلى معايير قيمية، لكنها في الإجمال حال نفسية متحركة للأفراد، تتجاذبها عوامل متشعّبة وأحيانًا أحداث طارئة، لكنها ترتبط أساسًا بعامل سِعة الرزق للأفراد في ظل الاستقرار الاجتماعي.

 

ميزان الاستقرار الاجتماعي هو مدى موثوقية وفعالية المؤسسات الراعية لتماسك المجتمع والناظمة لتشابك العلاقات فيه والقادرة على حمايتها من الاشتباك الذي قد يضرب الاستقرار بنحوٍ عنيف.

 

أهمية الاستقرار الاجتماعي هي أنه يعطي الفرصة للأفراد أو المجموعات المكونة للمجتمع لكي يخططوا بنحو منطقي للمستقبل، ويبنوا أعمالهم بناءً على احتمالات النجاح بنسبة عالية ومعقولة ومنطقية. من هنا، فإنّ علماء الاجتماع افترضوا أن الاستقرار هو الهدف الأسمى لأيّ عقد اجتماعي. والعقود الاجتماعية هي التي جعلت من المجتمع الواحد، أو الوطن، المتعدد الأفراد والمتعدد الجماعات، واقعًا ممكنًا حدوثه، بدل الحياة في حال الطبيعة، كما وصفها توماس هوبس بأنها «قصيرة وموحِشة ومقززة». ومن قاعدة فرضية الاستقرار في المعطيات اليومية، يمكن للمجتمع بعدها أن يسعى إلى مزيد من النمو المرفق بتوسيع مجالات الرزق مع ضمان الحريات العامة.

هذا الاستقرار المنشود يمكن أن تسنده عوامل عدة أهمها:

 

1 – تسمية السلطة واحدة من دون ازدواجية، تتولّى ناصية الحكم الرشيد للمجتمع ابتدائياً حتى لا تؤدي الخلافات وتضارب المصالح إلى ضرب الاستقرار. قواعد الحكم تستند حكمًا إلى ما تضمنه العقد الاجتماعي المتوافق عليه.

 

2 – يتم حل الخلافات بناءً على الروحية المدنية بحسب القواعد المنصوص عليها في العقد الاجتماعي من دستور وقانون، حتى لا يؤدي الخلاف وتضارب المصالح الحَتميين إلى ضرب الاستقرار. إنّ الحكم الرشيد هنا يمكن أن يستفيد من الاختلاف ضمن المجتمع لتحسين أداء مؤسساته وإصلاح الخلل فيها، من أجل تدعيم مزيد من الاستقرار. ليس الهدف إذًا قمع الاختلاف، بل إدارته وتوجيهه لتحسين الإداء.

 

3 – الخدمات العامة المنسقة التي تديرها الدولة تأتي لتدعيم الاستقرار الاجتماعي، وأهم وجوهها الرعاية الصحية والتعليم. الهدف منها هو توسيع أبواب النمو الاقتصادي من خلال إتاحة المجال للجميع للمشاركة، كلّ بحسب قدرته. لكن يجب رعاية القدرات البشرية الكامنة وتدعيمها لتحسين فعاليتها وتحفيز قدرتها على الإنتاج. يعني علاج كل العوائق الممكن إزالتها أمام دعم الأفراد لتطوير قدراتهم للمشاركة الفعالة في النمو والاستفادة من مكاسبه.

 

4 – تدعيم البنى التحتية وإنشاؤها وتطوير الصلبة منها، كالمواصلات والطاقة والأبنية، والبنية التحتية الناعمة للتواصل والثقافة والعلوم. تطور هذه البنية التحتية يدفع الأفراد إلى مزيد من الثقة بالمؤسسات التي تدعم النمو بمختلف أشكاله، وبالتالي تدعم الاستقرار الاجتماعي.

 

5 – العناية الخاصة والدقيقة بمنظومة القضاء والعدالة والقانون مع ضمان الأدوات التي تحمي وترعى تطبيقها بنحوٍ مُتساو بين الجميع من دون تعسّف، ولكن مع مراعاة الحريات العامة.

 

6 – الاقتصاد المنتج والفعّال المبني على حرية المبادرة يفتح باب المشاركة لجميع أفراد المجتمع في الفعاليات الإنتاجية. هذا الأمر يخفف من التشنجات الاجتماعية النابعة من ضحالة الفرّص بسبب حصرها في مجموعات معينة. ومع أن الاقتصاد الحر يستند إلى تقليص دور الدولة في الاقتصاد، لكنّ واجب الدولة هو دائمًا مراقبة المتغيرات ودوزنتها للتخفيف من حدة انعكاساتها على الافراد وعلى الاستقرار العام من خلال سياسات مالية مناسبة.

 

7 – رعاية وحماية الإرث الاجتماعي والتقاليد والثقافات الكلامية والمنظومات الإيمانية بنحو لا يعوق الاختلاف أو يضع عوائق أمامه.

 

8 – بالتوازي، يجب رعاية التحول والانتقال الاجتماعي والثقافي السَلس الذي تفرضه المتغيرات الثقافية والعلمية والتكنولوجية وحتى الديموغرافية. المفيد معرفته هنا هو أنّ أي محاولة لقمع التغيير بالقوة، بحجّة المحافظة على الإرث الاجتماعي، ستؤدي عاجلًا أم آجلًا إلى ضرب الاستقرار.

 

9 – تحسّن الظروف الاجتماعية والاقتصادية للأفراد يدفعهم في غالب الحالات إلى دعم الاستقرار للاحتفاظ بمكتسباتهم والسعي والأمل في مزيد.

 

10 – كلما تحسنت مرونة المنظومة الاجتماعية في علاج المستجدات كلما قويت قدراتها على التأقلم مع الظروف الطارئة والاستفادة من المتغيرات والصمود في وجه الأزمات المستجدة.

 

من هنا، يمكن أن نستنتج شيئًا واحدًا وهو أنّ الاستقرار يستند أولًا إلى عامل الرزق أو الاقتصاد.

 

في كتابه العظيم «الطاغوت» يقول توماس هوبس ان هاجس الإنسان الأول هو الحفاظ على الذات في ظل النزاع على الموارد مع آخرين، وسَعيه للحفاظ على الذات هو ما أقنعه بعقد اجتماعي ليصبح المجتمع ممكنًا، لكن بضمان سلطة واحدة مُعترف بها لتكون الضابط المحتكر لاستعمال العنف الشرعي. هدف الإنسان من كل هذا هو الاستقرار ليتمكن من الحصول على رزقه. ولو قارنّا شروط الاستقرار المذكورة أعلاه، لكان من الواضح أن الاستقرار وضمان الرزق يترافقان منذ بدايات الاجتماع البشري. فقد كان حل الصيادين اللمامين وترحالهم، قبل عصر الزراعة، مرتبطان بسِعة الموارد أو ندرتها، وعندما دجّنت الزراعة البشر، منذ نحو عشرة آلاف سنة، سَعوا إلى الاستقرار قريبًا من مورد رزقهم وهو ما أدى إلى توسّع المجتمعات وبالتالي تنظيمها من خلال عقود اجتماعية، تطورت لتأمين المقدار الممكن من الاستقرار والأمان الاقتصادي للأفراد.

 

فيلسوف الرأسمالية أدم سميث وفيلسوف الشيوعية كارل ماركس متفقان على شيء أساسي واحد هو أنّ الاقتصاد أو وسائل الارتزاق والإنتاج هي العوامل الأكثر تأثيرًا في حركة التاريخ الاجتماعي. الأول اعتبر أنّ يد الاقتصاد الخفية يجب أن تترك لحريتها التي تنظم العلاقات بين البشر. في حين أن الثاني رأى أن الدولة التي يديرها المنتجون الحقيقيون هي التي يجب أن تدير الاقتصاد. لكن في النهاية، أدركَ الاثنان أنّ حركة المجتمع وثقافاته ودينامية اجتماعه أو تفرّقه تستند أساسًا إلى مسألة وسائل الرزق كعامل أول وأحيانًا أخير.

 

هنا يأتي البحث المشهور الذي وضعه عالما الاقتصاد أسموغلو وروبنسون وهو «كيف تفشل الأمم». البحث التاريخ والحاضر حول اقتصادات الأمم، فاستنتج أنّ كل النظريات الاجتماعية من دينية وثقافية وتاريخية مهمة بالتأكيد، لكنّ الطريق الأكثر فعالية لنجاح الأمم وتماسكها هو في تشبيك كل الأفراد، إذا أمكن، في فعاليات الاقتصاد، لأنه الأكثر قدرة على جَعل استدامة الاستقرار مصلحة شخصية لكل مجموعة أو فرد من المجتمع… هذا المجتمع قادر عادة على تجاوز الأزمات وتخطّيها بأقل مقدار ممكن من الضرر، لأنّ أفراده يثقون بأنهم قادرون، من خلال منظومة الإدارة للمجتمع، على تخطّي الأزمات. في المقابل، فالاقتصاد الحصري بمجموعة ما داخِل أي مجتمع، هو المقدمة المؤكدة للتفكك والفشل، لعكس الأسباب التي ذكرتها سابقًا.

ما أريد قوله هو أنه ليس التعدد الديني أو الطائفي هما السبب في فشلنا، وبالتالي فليس الحل بأيّ تعويذة تقسيمية، مهما كان عنوانها. فنزويلا وليبيا وإيران وكوريا الشمالية والأرجنتين والمكسيك وغيرها لم يكن فيها طوائف متعددة لتفشل، بل الخلل كان في شمولية أو حصرية وسائل الرزق. أنظروا إلى أعداد أبنائنا الذين هاجروا خلال السنوات القليلة الماضية، أو في طفرات متفرّقة في تاريخ هذه البقعة من الأرض، واستمعوا إلى كلام مَن نجوا حتى الآن من الغرق في البحر، ومَن سبقوهم إليه، لم يتحدث أي منهم عن إيمانه أو عن طائفته ولا عن المقاومة، كلامهم كان دائمًا عن ضيق مجالات الرزق والاستقرار.

 

مشروع راحل في لبنان، شابَه كثير من الدسائس والعورات والتشكيك، ابتدأ أولًا باختطاف الشبّان من الجبهات إلى الجامعات، وبعدها بتوسيع قاعدة الرزق ومحاولة تحريره من الحصرية، ومن ضمنها فك الوكالات الحصرية، كانت تهدف كلها لضم أكبر عدد من المواطنين إلى العملية الاقتصادية، انتهى المشروع بالاغتيال، ونحن اليوم نعيش تداعيات اغتيال مشروع توسيع الأرزاق وليس لأننا طوائف متعددة لم نعد نطيق العيش معًا. فقد أجمعت كل الدراسات حول الحروب الأهلية على أنّ ما يمنع حربًا جديدة هو النمو في الاقتصاد في أي بلد خارج من الحرب.