فاجأت أميركا العالم باغتيال قاسم سليماني الأب الروحي للمعسكر المتشدّد في إيران والمؤمن بفلسفة القوّة في تحقيق مكتسبات النظام. حملت العملية الأميركية رسائل عدّة، ولا ضرورة للتنبّؤ بأنّ ما قبل الثالث من كانون الثاني غير ما بعده، مقارنة بالخطاب التصعيدي، معطوفاً على القدرات الأميركية والإيرانية العسكرية منها والسياسية والجيوسياسية.
أوصلت واشنطن الرسالة، فهي من تحدّد من الآن فصاعداً قواعد اللعبة، وكما يُستشفّ من الخطاب الأميركي فإنّ «الاشتباك» لم يعد اشتباكاً بالوكالة، إنّما سيكون بالمباشر. فكلام كلّ من الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو واضح لجهة انّ «الولايات المتحدة ستردّ على صنّاع القرار في إيران اذا تعرّضت قواتها ومصالحها لأيّ اعتداء»، وكلام ترامب على انّ اميركا لا تسعى لتغيير النظام في ايران، لا يعني طمأنة أميركية، لأنّه استكملها بأنّه «يجب إنهاء حروب النظام الإيراني بالوكالة في المنطقة»، بما يعني استعداد واشنطن لضرب العمق الإيراني.
انتقلت المواجهة الى مواجهة مباشرة مع النظام الايراني لأسباب عدّة، منها: أولاً، عجز إدارة ترامب عن إنشاء ما يُسمى «الناتو العربي» في المنطقة لمواجهة المشروع الايراني، وثانياً التأكد من أنّ حلفاء أميركا غير قادرين على سلوك النهج الذي تتبعه ايران في الامساك بمفاصل المنطقة، من خلال الحرب الهجينة (Hybrid Warfare)، وتكتيكات حروب الجيل الرابع (Fourth Generation War (4GW، التي مكّنتها من السيطرة على مساحات جغرافية في العالم العربي.
ثالثاً، بدء تصدير ايران لأسلحة «استراتيجية»، («صواريخ باليستية» و«صواريخ دقيقة» لمجموعات «الحشد الشعبي» في العراق والحوثيين في اليمن و»حزب الله» في لبنان). تصدير الطائرات المسيّرة، وتوسيع نشاط الحرب الالكترونية والسيبرانية… إلى المجموعات الحليفة لها في المنطقة والتي يشرف على تسليحها وتدريبها وتمويلها «فيلق القدس» بقيادة قاسم سليماني.
بالاضافة الى الخطر الذي تشكّله كل هذه العوامل على أمن المنطقة واستقرارها، والتهديد الذي بدأ يطال منافذ بحرية ومناطق حيوية واستراتيجية تجعل «الجمهورية الاسلامية» ذات دولة اقليمية كبيرة تشكل خطراً على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. هذه القدرات النوعية، معطوفة على «الانكفاء العربي» عن الوقوف ضدّ ايران، دفع بالولايات المتحدة إلى اتخاذ قرارات صعبة وإجراء تغيير في قواعد اللعبة، ونقل المواجهة، من مواجهة سلمية عبر العقوبات والاقتصاد، إلى مواجهة عسكرية تتخطى وكلاء ايران إلى المواجهة المباشرة معها.
«عدو اليوم صديق الغد»
بعد فسخ ترامب الاتفاق النووي، زاد عناد ايران، فتصاعدت العقوبات على الكيانات والأفراد والمؤسسات والمجموعات التابعة لها في كل انحاء العالم، للجمها وإدخالها الى غرفة المفاوضات لتوقيع اتفاق مناقض لاتفاق أوباما.
في القراءة الأميركية، هناك معسكران في ايران، المعسكر الاصلاحي المتمثل بالقيادة السياسية التي يرأسها حسن روحاني، والمعسكر المتشدد المتمثل بالقوة العسكرية التي يرأسها «الحرس الثوري» والتي كان يقودها قاسم سليماني.
هذا المعسكر يؤمن بأنّ نجاحات ايران في التوسع والتمدّد والامساك بخيوط اللعبة في الأنظمة المجاورة، ومستوى القوة الذي يترجم في الساحة الاقليمية والذي جعلها قوة إقليمية مهمة، هو عبر اتباع سياسة المواجهة والقوة والابتعاد قدر الامكان عن المفاوضات التي تتطلب تنازلات متبادلة. ومعلوم انّ قاسم سليماني كان رافضاً للاتفاق النووي الذي وُقّع عام 2015، إلّا بعدما رأى فيه مكاسب لإيران على المدى الطويل.
لذلك، فإنّ تراجع واشنطن عن الاتفاق شكّل صدمة للايرانيين، وفتح النقاش على مصراعيه داخل النظام الايراني، حيث ظهر سليماني مجدداً بمظهر المتشدّد، الرافض إعطاء ايّ تنازلات، بل الممتنع، الى حدّ منع الايرانيين من الدخول في أيّ مفاوضات مع الولايات المتحدة، وهو أمر سمعناه كثيراً على لسان المسؤولين الايرانيين، خصوصاً أنّه كان هناك رهان على تزايد الاختلاف بين اميركا والدول الأوروبية في شأن الاتفاق النووي، فرفع الايرانيون سقف المواجهة الديبلوماسية، ووضعوا شرط العودة الى المفاوضات برفع العقوبات كلياً عن ايران.
اليوم، اغتيل سليماني. وبحسب القراءة الأميركية، لا شيء يمنع طهران من الذهاب الى المفاوضات، بل إنّ الأمور باتت أسهل، وكلام ترامب يؤكد، إننا «قتلنا سليماني من أجل وقف الحرب لا لبدئها»، ويؤكد انّ واشنطن لا تريد الحرب، لكنها لن تتوانى عن الذهاب بها الى العمق الايراني اذا فرضت عليها، فأرفق كلامه بـ«تغريدة» شكّلت رسالة واضحة: «إن إيران لم تنتصر أبداً في أيّ حرب. لكنها لم تخسر في أيّ مفاوضات».
اذاً الكرة الآن في ملعب إيران التي اختبرت القوّة الأميركية. واستناداً الى بيان الخارجية الايرانية بعد يوم من مقتل سليماني، الذي دعا الى «ضبط النفس وانّ ايران لا تريد حرباً»، إضافة الى حديث حسن نصرالله، يفتش الايرانيون عن هدف نوعي لحفظ ماء وجه القوة الايرانية، لأنّ الاختيار صار بين أمرين، إما الحرب الشاملة، وإما التفاوض، ويبدو بعد مقتل سليماني انّ الطريق الى المفاوضات أمام إيران اصبحت معبّدة.