بعد ثلاثة ايام على مجزرة بيروت، لا تزال هواتف آلاف اللبنانيين تتلقى اتصالات اطمئنان من اصدقاء ومعارف من كثير من العواصم، وسط تضامن عربي ودولي واسع. حجم الكارثة ومشاهد الموت والدمار صدمت دولا تعاني من أزمات «كورونا» وانهيار اقتصاداتها، ودفعتها الى المبادرة بارسال مساعدات عينية. انفجار المرفأ لا يزال يتصدر عناوين شاشات التلفزة العالمية والصحف واغلفة المجلات. الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون يعد من بيروت بمساعدات للشعب اللبناني، مؤسسات دولية من الشرق والغرب تتحدث عن اغاثة مباشرة لجمعيات ومستشفيات ومؤسسات من دون المرور بمؤسسات الدولة. كل ذلك والاستثمار السياسي للجريمة على اشده، فيما السلطة في واد آخر. هذا الانهيار التام، وتلك المواجهة الصامتة بين السلطة وبين مواطنيها المشردين والمصابين والمفقودين واهل من استشهدوا وقرعت لهم الاجراس حزنا، لم يدفعها فعليا الى التصرف على قدر مستوى الكارثة. اهون اختراع هو حال الطوارىء ونكتة الاقامة الجبرية لبعض من سيُضحى بهم من اجل بقاء من هم اعلى منهم، والتذرع بالحكومات المتتالية والوزراء المتعاقبين وبالامنيين الكثر الذي كانوا يطلبون العمل في المرفأ لنيل حصصهم من دون ان يقوموا بواجباتهم. واسهل المعالجات الاختباء في لحظة الصدمة، علّ موجة الغضب تمر من دون محاسبة، كما حدث في مرحلة التظاهرات، مقابل الدعوة الى اتمام مراسيم التشييع بسرعة وافراديا حتى لا تتحول الجنازات الجماعية انقلابا فعليا. غياب تام لمسؤولين وسياسيين، واجهزة الدولة من دون استثناء، عن مواكبة مأساة الناس، مقابل الرهان على اموال المساعدات والاعمار، من دون الاقتناع بأن الدول المانحة لن تقدم مساعداتها عبر هذه الاقنية الرسمية.
نقطة واحدة مضيئة في كل ما يجري. ففيما موظفو قطع الاغاثة الذين حرمتهم السلطة كثيرا من حقوقهم يعملون في ظروف سيئة، كان مشهد مئات المسعفين والمتطوعين في اكبر عملية انقاذ وتنظيف ومد يد العون بمبادرات فردية وحده يعطي جرعة من الامل.
لا يمكن ان يكون هؤلاء الشبان والشابات قد ولدوا في البلد نفسه الذي ولد فيها السياسيون والامنيون ورجال القضاء المسؤولون عن كارثة المرفأ، والذي يعيش فيه المصرفيون والسياسيون الفاسدون الذين سدوا في وجوههم ابواب العمل والدراسة. كيف يمكن ان يكونوا على الارض فيما يمضي محازبون من جيلهم سهرات عامرة يوم الحداد الوطني، او يلتزمون تعليمات رئيسهم الحزبي في التحرك او التضامن. هؤلاء المتطوعون في بلد لم يقدم لهم، وهم في العشرينات والثلاثينات من عمرهم، اي امل للبقاء فيه، وبعضهم ممن ينتظر اوراق الهجرة، تحركوا في مجموعات ناشطة للقيام بما عجزت عنه حكومتهم.
جامعيون وطلاب مدارس، منتمون الى جمعيات كشفية واغاثة دينية ومدنية، وغيرهم كثر، نزلوا منذ صباح يوم الفاجعة الى بيروت. تقول احداهن وهي تبكي بعدما فوجئت بأعداد المتطوعين: «الناس هم الدولة. لم نصدق اعداد الذين اتوا للمساعدة، كان المشهد اشبه بتظاهرة يحمل فيها الجميع مكانس وادوات تنظيف للعمل في الاحياء والابنية والشوارع».
فرح مشهد الكناسين في مسرحية «الشخص»، يعادله حزن مئات من يعملون وفي قلوبهم غصة وفي عيونهم دموع الدهشة، لهول ما رأوه داخل المنازل المدمرة، حيث العائلات لا تزال تحت وقع الصدمة، وتعيش عجائز وحدهن، من دون سند أو قوة لمواجهة الحقيقة. في احياء بيروت، وبلا اي تعليمات، وجدوا انفسهم في قلب اكبر عملية تنظيف وتعقيم ومواساة وتقديم المساعدة والطعام. دخلوا الى بيوت لا يعرفونها، فرأوا امامهم مشاهد كان اهلهم يحدثونهم عنها وعن سنوات الحرب الطويلة وانفجارات السيارات والقصف المدفعي. صحيح ان حكايات البيوت المشلعة والاثاث المدمر والشبابيك والاسطح التي طارت من مكانها واحدة، في الاحياء المنكوبة وكأن عشرات القنابل انفجرت فيها، لكن لكل بيت قصة: هناك الازواج الجدد الذين ينتظرون مواليدهم في منزل بات كتلة من ركام، لا ثياب ولا اثاث، كل ما تبقى مجرد غبار اسود ورائحة لا تكفي مياه البحر لازالتها. عائلات طار جنى عمرها في الانفجار، وعجائز نمن من دون طعام وقضوا ليلتهن بلا سقف، ومسافرون عادوا ليستشهدوا. وهناك من لا يزال مفقودا وعائلته تبحث عنه, ورجال يبكون شبابهم وعجزهم في حرب طويلة لا تنتهي. روايات قاسية على اعمار فتية، بكوا وهم يرون ما جرى لاصدقاء لهم باتوا على الطريق، لغرباء لم يصدقوا ان هناك من حمل لهم الطعام وقناني المياه، وعرض عليهم منزلا للاستحمام، من ساعدهم على جمع الزجاج وازالة الركام، وتنظيف الاسطح وادراج البنايات وتأمين متطلبات اساسية من ثياب واغطية. روايات البؤس مقابل نقاط مضيئة، جمعيات اغاثة وتحضير الطعام، عريسان قدما مأدبة يوم عرسهما الذي اطاحت به الاحداث، للجمعيات الانسانية، مهندسون عرضوا خدماتهم للترميم، واطباء شبان ومعالجون فيزيائيون ومعالجون نفسيون زاروا العائلات قدموا خبراتهم، شبان اهتموا بكثير من النواحي الاجتماعية اليومية للناس، حتى البحث عن حيواناتهم الاليفة.
اهون اختراع هو حال الطوارىء ونكتة الاقامة الجبرية لبعض من سيُضحى بهم
جاءوا من البقاع في فانات، ومن الشمال وصلوا الى بيروت يسألون اين الجميزة ومار مخايل، واين المستشفيات لنتبرع بالدم. مجموعات من الجبل والبقاع والجنوب وجبل لبنان، تلاقت حيث غابت اجهزة الدولة. تقول احدى المتطوعات: كنا نجمع الركام لكن لا احد موجود لرفعها، الاجهزة الرسمية المسؤولة عن معالجة ما بعد الكارثة، غائبة عن الارض والسمع، لا قوى امن، لا عمال بلديات، لا شركات تنظيف فيما النفايات المنزلية تتكدس في كل الشوارع. في اليوم الاول نظفوا، وفي اليوم التالي جاؤوا بامتار النايلون لمساعدة العائلات على اقفال شبابيكها وابوابها. هل يتخيل احد مشهد بيروت لو تركت على عاتق الدولة، من دون مبادرات هؤلاء. في شوارع الدورة والمنطقة الصناعية، لم ينتظر احد اللواء محمد خير ليكشف عن حجم الكارثة، ولا ليعوض الاضرار، بدأوا بمبادرات فردية جلبوا شاحنات واجهزة خاصة وبدأوا بالتنظيف والعمل ما امكن لردم الفجوات واقفال محالهم ومؤسساتهم التجارية والصناعية. كل ذلك والدولة في خبر كان، رغم ان المأساة لم تنكشف بعد عن كل الاهوال. فالجريمة بشقها الامني لا تلغي ان تداعياتها الانسانية والاجتماعية، تحتاج الى سرعة تحرك وقرار عملاني. عدا المرفأ المهدم، من يكشف على البيوت العتيقة المصدعة، والجسور والطرق التي تنذر بكوارث، في وقت كانت تعاني اساسا من اهمال في صيانتها. من الذي سيعوض على الفقراء المتضررين، ويعطيهم الاولوية في آليات الدعم. من يسأل اين سيبيت المشردون ايامهم: المسؤولون الذين يتحركون فقط لالتقاط الصور، امام عدسات التلفزيون، ام الذين يختبئون من غضب الناس، فلا يؤمنون لهم الماء والكهرباء والطعام. من سيكون مسؤولا عن الذين فقدوا وظائفهم ومحالهم والمؤسسات التجارية والصناعية الكبرى واقعة تحت وطأة الكارثة. من سيعيد بناء منازلهم ومؤسساتهم. الاكيد ان المنكوبين لا يحتاجون شركة سوليدير ثانية تعيد تشريدهم. هم يحتاجون الى سلطة، وحاليا هي غائبة تفتش عن سبل بقائها وكيفية الافادة من الاعانات لاستثمارها كما في كل المصائب السابقة.