Site icon IMLebanon

سوليدير تطمر «نفايات خطيرة» لمنع اقامة حديقة عامة

في ظل أزمة النفايات المسيطرة على البلد، عادت الى الواجهة مجدداً قضية مكبّ النورماندي المقفل منذ عام 1994. آنذاك تسلّمت «سوليدير» معالجة المكب ضمن الاتفاق الشامل مع الدولة لإعادة إعمار وسط بيروت. منذ سنوات، ارتفعت أصوات كثيرة تتحدث عن نقل الشركة نفايات سامة من النورماندي الى مناطق أخرى «مجهولة»، لكن بما أنّ «سوليدير» دائماً خارج الرقابة وفوق القانون، وفي بعض الأحيان «سوليدير» هي الدولة، لم يُفتح أي تحقيق. اليوم، ترتفع أصوات لتعلن أنّ النفايات لا تزال موجودة في منطقة النورماندي وأنّ «سوليدير» ماضية في مخططها الشرير لمنع دخول الناس الى أملاكهم العامة

منذ أيام (23 تموز الجاري) تقدّم الوزير السابق وئام وهاب بإخبار الى النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم ضد شركة «سوليدير» ومجلس إدارتها بجرم اختلاس أموال عامة والإضرار بصحة المواطنين، نتيجة عدم تنفيذها للعقد الموقّع بينها وبين مجلس الانماء والإعمار، والقاضي بإزالة النفايات السامة من منطقة النورماندي. وكشف وهاب في الإخبار أنّ وزير البيئة محمد المشنوق أرسل كتاباً الى مجلس الإنماء والإعمار أكّد فيه، بعد إجراء الفحوص المخبرية، أن النفايات السامة موجودة بنسبة عالية وكبيرة في تلك المنطقة المستحدثة من ردم البحر.

وكان وهاب قد أثار قضية مكب النورماندي في برنامج «بلا حصانة» على شاشة OTV، واكتفت «سوليدير» في ردّها عليه بتذكير اللبنانيين «بمشهد جبل النفايات الذي كان يلوث منطقة النورماندي وجزءاً من بحر بيروت»، مستغربةً إعادة فتح الموضوع اليوم، خاصةً أنّ «المشكلة تمت معالجتها بأفضل الطرق البيئية والتقنية». وشرحت «سوليدير» في بيانها أنّه «تم استخراج كل المواد الموجودة في منطقة النورماندي وفرزها ومعالجتها، وتوزعت بين مواد أعيد تدويرها واستخدامها لأغراض صناعية كالحديد والزجاج وغيرهما، وعولجت المواد العضوية بتقنيات مطابقة للمعايير البيئية العالمية، أما المواد الصلبة فقد تم تفتيتها وإعادة استعمالها في أعمال الردم». وأضاف البيان أنّ الشركة «أنجزت كافة أعمال معالجة النفايات بإشراف شركتي Fairhurst W.A Mores، والاخيرة قدمت عام 2011 تقريراً شاملاً، أقرّه المراقب التقني العالمي Bureau Veritas، وهو يؤكد إنجاز كافة أعمال معالجة النفايات والردم حسب دفتر الشروط الموافق عليه من مجلس الإنماء والإعمار (…) ويثبت أن نوعية التربة في منطقة النورماندي لا تشكل أي خطر على الصحة البشرية ولا تتطلب أعمال تطوير وبناء المشاريع المقررة على هذا الموقع أي تدابير وقائية استثنائية»، وخلص بيان «سوليدير الى التطمين أن «المنطقة خالية من أي مواد سامة أو تلوث، وأن أعمال البناء والمعالجة تضمن الصحة البشرية وهي تخدم المصلحة العامة والبيئة».

لكن ما قالته «سوليدير» وما استندت اليه من تقارير شركات تتقاضى أجورها من الشركة نفسها، تناقضه كلياً النتائج التي وردت من مختبرات الجامعة الأميركية، والتي أظهرت وجود نفايات في المنطقة، ما يعني أنها ملوّثة.

الشركة تناقض الوقائع

كيف بدأت القصة؟

منذ شهرين، تلقّى وزير البيئة محمد المشنوق مراجعات عديدة من قبل جمعيات تعنى بالشأن البيئي، تفيد بوجود نفايات في عقارات عدة في منطقة النورماندي، فتمّ تكليف لجنة مختصة للكشف على المنطقة المذكورة والتأكد من صحة هذه المعلومات. يؤكد الكتاب الذي أرسله المشنوق بتاريخ 30 أيار2015 الى رئيس مجلس الإنماء والإعمار نبيل الجسر أنه «تبين لهذه اللجنة وجود كميات كبيرة من النفايات السامة في الحفريات الموجودة في المناطق المردومة ضمن منطقة النورماندي، وكذلك وجود نفايات سامة ومضرة تحت البنى التحتية في هذه المنطقة.

تبيّن للجنة وزارة البيئة وجود كميات كبيرة من النفايات السامة في حفريات المناطق المردومة

يضاف الى ذلك أنه لوحظ ترحيل هذه النفايات السامة والمضرة الى خارج المنطقة من دون معرفة الوجهة التي يتم إرسال هذه النفايات اليها». وعليه، طلب المشنوق من المجلس إفادته عن «وجهة نقل هذه النفايات والطريقة التي يتم بها تنفيذ أعمال نقلها والموقع الذي يتم وضع هذه النفايات عليه خلال مهلة 15 يوماً»، كذلك طلب المشنوق «وقف هذه الأعمال واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لملاحقة المسؤولين».

في 8 حزيران، أرسل مجلس الإنماء والإعمار كتاباً الى «سوليدير» يطلب فيه توضيح ما ورد في كتاب وزير البيئة، كما طلب التوقف الفوري عن أعمال ترحيل هذه الحفريات في حال كانت تحتوي فعلاً على نفايات سامة ومضرة. وعليه، قامت شركة «سوليدير» بإرسال عينات لفحصها في مختبرات الهندسة المدنية في الجامعة الأميركية بتاريخ 24 حزيران، فتبيّن وجود أكياس نايلون، أخشاب، أقمشة وزجاج في عينتين، كذلك أظهرت النتائج أن نسبة المواد العضوية هي 14.95% في العينة الأولى، و15.33% في العينة الثانية. وبالتالي تبين أن هناك أساساً صلباً للمعلومات التي في حوزة وزير البيئة والتي حصل عليها وهّاب، ولكن شركة «سوليدير» أصرّت على إصدار بيانها المذكور وأنكرت فيه الحقيقة المثبتة.

في تقرير شركة MORES عام 2011 الذي استندت اليه شركة «سوليدير» للزعم أن الوضع سليم وصحي، يرد أنّ «الإطارت جرى تمزيقها ووضعها في العمق في منطقة الحديقة أو نقلها إلى مكب النفايات في سبلين. كذلك البلاستيك تمّ رزمه ووضعه في العمق في منطقة الحديقة أو نقله إلى مكب النفايات في سبلين. أما النفايات الطبية فجرى إحراقها ودفن رمادها في عمق منطقة الحديقة، وتمّ سحق الصخور ومخلفات البناء واستخدامها لتدعيم القواعد أو في عمليات الردم». لكن، في ضوء الفحوص التي أجرتها «سوليدير» نفسها، يصبح السؤال مشروعاً: إذا كانت جميع هذه النفايات قد دُفنت في أعماق الحديقة (النورماندي) كيف عادت وظهرت في الطبقات الأولية للأرض؟ يعني هذا الأمر أنّ الأرض لا تزال تحتوي على النفايات، وهو ما أكّدته نتائج العينات على الرغم من إصرار سوليدير على أن «المنطقة خالية من أي تلوث»، وبالتالي فإنّ الشركة لم تعالج المكب بالطرق المناسبة، مخالفةً بذلك عقدها مع الدولة، الذي تقدّر كلفته بنحو 120 مليون دولار. هذه الوقائع تعيد إلى الأذهان ما حُكي منذ سنوات عن نقل سوليدير لنفايات سامة من مكب النورماندي الى مناطق لبنانية، وهي تعزّز فرضية ترك نفايات سامة في الأرض حيث ستقام الحديقة العامة المفتوحة لجميع الناس في المنطقة المستحدثة بردم البحر على موقع مكب النورماندي القديم.

مزاعم الشركة في مسألة خلوّ المنطقة من النفايات تشرّع أبواب التحقيق للبحث في ما تمّ تداوله سابقاً من مخططات «شريرة» لسوليدير، خاصة أنّ الشركة في بيانها أشارت الى هذه المخططات في معرض التطمين، إذ أعلنت أنّ «أعمال تطوير وبناء المشاريع المقررة على هذا الموقع لا تتطلب أي تدابير وقائية استثنائية» تخص نوعية التربة.

تلويث الحديقة لتبرير إقفالها

لكن ما هي خطة سوليدير «الجهنمية»؟

في أوائل تسعينيات القرن الماضي استُخدم مكبّ النورماندي على شاطئ البحر في وسط بيروت لرمي النفايات ومخلّفات البناء وموادّ الأنقاض التي نشأت خلال فترة الحرب بين عامي 1975 و1994. فجأة، أصبح المكبّ المطل على الشاطئ اللبناني يحتوي على أكثر من خمسة ملايين متر مكعب من النفايات تمتد على مساحة 18 هكتاراً بارتفاعٍ بلغ 20 متراً وعمق 24 متراً تحت مستوى البحر.

سعت «سوليدير» إلى إيجاد

صيغة لمنع الناس مستقبلاً من دخول الحديقة

مع انتهاء الحرب والانتقال الى مرحلة إعادة إعمار وسط بيروت، كان لا بد من معالجة أزمة المكب، فاتفقت الدولة مع شركة «سوليدير» عام 1994 على تلزيمها كل أعمال البنية التحتية لوسط بيروت، وأشغال الردم والردم الاضافي، بما فيها معالجة مكب النورماندي. بلغت الكلفة التقديرية لهذه الأشغال (بأسعار عام 1994) 475 مليون دولار. وفي ما يتعلق بمكب النورماندي، فقد وقّعت الشركة عام 1999 اتفاقاً مع شركة «راديان انترناشونال» الاميركية لتنظيف شاطئ بيروت بقيمة 54 مليون دولار، إلا أنّ التكلفة ارتفعت لاحقاً الى نحو 120 مليون دولار. وقد نصّ المشروع على قيام الشركة بإزالة مكب النفايات، وأعلنت «راديان» أن أشغال التنظيف ستستغرق أربع سنوات ونصف السنة بموجب بنود الاتفاق الذي تم توقيعه بعد عامين من المفاوضات.

كان الاتفاق الشامل بين «سوليدير» والدولة (عام 1994) ينص على أن تنفذ الشركة كافة الأشغال لمصلحة الدولة وعلى حسابها، مهما بلغت كلفة تنفيذ هذه الأشغال، مقابل أن تنال «سوليدير» ثلث المساحة التي ستنشأ عن الردم ويبقى للدولة ثلثا المساحة. بلغت حصة سوليدير من مساحة الردم 291800 متر مربع قابلة للتطوير العقاري. تتألف هذه المساحة من 79 الف متر مربع مقابل تنفيذ أشغال البنية التحتية في منطقة وسط بيروت، ومساحة 212800 متر مربع مقابل تنفيذ أشغال الردم الأصلي وأشغال الردم الإضافي، وكذلك أشغال البنية التحتية المستحدثة بنتيجة الردم، منها مساحة 29 الف متر غير قابلة للبناء وقابلة للاستثمار.

في هذا الوقت، ظهر المخطط التوجيهي لمنطقة الردم الذي يقضي بإنشاء منطقة تجارية ووحدات سكنية ومرفأين سياحيين وحدائق عامة في موقع المشروع، منها حديقة النورماندي. حتى اليوم أنجزت الشركة معظم المخطط وبقي لديها الحدائق العامة. فقد أُلزمت سوليدير بأن تبني مكان مكب النورماندي حديقة عامة كبيرة للناس من ضمن حصة الدولة من الأرض، وهو ما «أزعجها»، إذ يؤثر هذا الأمر سلباً في أسعار عقاراتها في المنطقة، حيث إنّ طبيعة العقارات والناس المستهدفين، أي الطبقة الثرية، لا يناسبها أن «يُزرع» في المنطقة حيز عام مفتوح يقصده «عامة الناس». مخطط الشركة يقضي بأن تبقى المنطقة معزولة ومغلقة على أثريائها بحيث لا يُترك أي متنفس للعامة للشعور بالانتماء الى وسط البلد. نجحت الشركة في تنفيذ مخططها «الشرير» في المنطقة التجارية والوحدات السكنية التي أصبحت فارغة كلياً، كذلك بنت مرفأها السياحي ومشروعها المعروف بالـ»زيتونة باي» الذي كان من المُفترض أن يكون مكاناً عاماً للناس فحوّلته الى منطقة مغلقة فعلياً. بقي أمام الشركة مسألة الحديقة العامة، فسعت إلى إيجاد صيغة لمنع الناس مستقبلاً من دخولها. سرت شائعات كثيرة منذ سنوات طويلة عن معالجة متعمدة للنفايات بطريقة غير سليمة بحيث تتحوّل هذه النفايات الى مواد مضرة وسامّة، تقتضي لاحقاً تحذير الناس من الدخول الى الحديقة بحجة الحفاظ على صحتهم، ولا سيما الاطفال، وبذلك تبني سوليدير الحديقة وتسيّجها بحيث لا يمكن للناس دخولها وفي الوقت نفسه تحافظ على ارتفاع أسعار عقاراتها. ما بدأ يظهر اليوم من وجود نفايات في الأرض يعزّز فرضية وجود مخطط الشركة ويدفع الى التعامل الصارم مع هذه المسألة عبر التوسّع في التحقيقات لمعرفة ما إذا دفنت «سوليدير» مواد سامة في الحديقة المنوي إنشاؤها.