IMLebanon

الحلّ.. بنسف القاعدة!

 

لعلّ أكثر البدع الفاقعة في التركيبة السياسية اللبنانية، يتبدّى في أنّ التأخير في تشكيل الحكومة، أيّ حكومة، هو القاعدة والأمر الطبيعي جداً، وأنّ التعجيل في هذا التشكيل هو الاستثناء والشذوذ عن القاعدة.

أغربُ ما يرافق هذه القاعدة، هو أنه عندما يحصل التشكيل المتأخّر، تُسارع مجموعة من المطبّلين والمزَمّرين، إلى اعتبار هذا التشكيل إنجازاً عظيماً، وتُسقِط عليه ما طاب لها من أوصاف التعظيم وآيات التمجيد به وبالجهود التي بُذلت لتحقيقه.

هذه القاعدة المشوّهة، ليست طارئة على الحياة السياسية في لبنان، بل هي القاعدة المعتمدة، مع كلّ تأليف لأيّ حكومة. وتشكّل المفتاحَ الدائم لتضييع الوقت على البلد، كون تأليف الحكومة غيرَ مقيّد بفترةٍ زمنية توجب بلوغ التأليف ووضع التشكيلةِ الحكومية خلالها، أسوةً بما هو معمول به في الكثير من دول العالم.

ومِن الطبيعي أن يبقى البلد ووقته أسيراً خاضعاً لتلك القاعدة، طالما إنّ الضوابط التي تلغيها، غير موجودة، والطريق الأسلم إلى وقفِ العمل بها، أو التذرّع بها، هو النص على هذه الضوابط في الدستور، بما يَحول دون أيّ صلاحيات تأخيرية لأيّ رئيس، والبديهي هنا أن يُصار إلى وضعِ الشروط التعجيلية، ولعلّ الأهمّ فيها هو النص على المهل المقيّدة بفترات زمنية، كمِثل تحديد مهلة تشكيل الحكومة بـ (فترة شهر يبدأ احتسابُها من لحظة التكليف، أو مهلة أربعين يوما، يبدأ احتسابها من لحظة التكليف، على أن تكون قابلة للتجديد لمرّة واحدة).

النصّ على الفترة المحدّدة للتأليف في الدستور، يمنع فريقَ التأليف كلَّه مِن التفكير بلحظة «تطنيش» أو استرخاء ليس بوقته، أو مماطلة، أو غير ذلك من مفردات بازار المقايضة أو المحاصصة السياسية، بل يضع هذا الفريق أمام إلزامية التحرّك سريعاً في هذا الاتجاه، وتمنع الحالة الشاذّة التي تتبدّى مع كلّ تأليف، وتوفّر بالتالي الوقتَ الضائع على البلد، كما توفّر على كثيرين النداءات وحتى الاستغاثات للتعجيل بتشكيل الحكومة، والتي تقابَل بذريعة «لا يوجد مهلة محدّدة للتأليف كما أننا ما زلنا ضمن فترة السماح، المحدَّدة استناداً إلى الحالات الشاذة السابقة التي كان التأليف يَستلزم خلالها شهوراً.

مع وجود هذه القاعدة، يبقى البلد، كما هو اليوم، غارقاً في تكهّنات وتوقّعات وسيناريوهات حول معطّلات داخلية وخارجية للتأليف، وحالة من التبصير والتنجيم حول موعد ولادة الحكومة، ويُصاب بين حين وآخر بنوبات تفاؤل حول بدءِ مخاض الولادة، على ما حصَل قبل نهاية الأسبوع الماضي، حيث لفَحت البلدَ أجواء أوحت بأنّ الحكومة قاب قوسين أو أدنى من لحظة الولادة، لكن سرعان ما لحقتها نوبة تشاؤم تبيَّن خلالها أنّ كلّ هذا التفاؤل كان فارغاً وبلا أيّ معنى، وأنّ ما شغل البلد في الأيام الاخيرة لم يكن أكثرَ مِن حملٍ كاذب.

وإذا كان غياب الفترة الزمنية المقيّدة للتأليف، يشكّل السببَ الجوهريّ للعلّة، فإنّ هناك أيضاً سبباً أساساً آخر لها يتبدّى في الاختلال الفاضح في معايير التمثيل في الحكومة، والتي يفترض أنّها معايير جدّية ورصينة وعادلة للتمثيل. ومع هذا الاختلال يبدو كلّ طرف وكأنه هو الذي يشكّل الحكومة، أو بشكلٍ أدقّ يبدو وكأنه يشكّل حكومته داخل الحكومة. وأمّا مكامنُ هذا الاختلال فمتعدّدة وتتبدّى:

  • في عنوان حكومة الوحدة الوطنية؛ فمجرّد الاتفاق على حكومة من هذا النوع يعني أنّها تشمل جميع الاطراف من دون استثناء. وأمّا في لحظة الترجمة، فيُنسَف هذا العنوان، ويحصر التمثيل بأطراف سياسية معيّنة، وتُهمل أطراف أخرى وتحرَم من دخول الجنّة الحكومية.
  • في الذهنية الفوقية التي تمارسها بعض الاطراف السياسية، والتي تحاول من خلالها ان تفرض نفسَها كصاحبة الحقّ الحصري في الاستئثار بالمساحة الأوسع في الحكومة، وصاحبة الحقّ في وضع «الفيتو» على تمثيل هذا الطرف أو ذاك. وصاحبة الحق في التدخّل في صلاحيات الرئيس المكلف وتحديد حجم تمثيل أطراف أخرى في الحكومة، مهما كان حجم هذه الاطراف. والمثال واضح هنا في الاشتباك الواضح على الأحجام في الحكومة بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية». حيث يريد التيار أن يعكسَ حجمه النيابي (بالاستناد إلى تكتّل لبنان القوي) في الحكومة إلى حد يصل إلى 7 حقائب وأكثر تضاف إليها الحصّة الثلاثية لرئيس الجمهورية. فيما ترفض «القوات» التخلي عن حصّة وزارية وازنة لها تلائم حجمَها النيابي، أو التخلي عن المطالبة بمنصب نائب رئيس الحكومة، الذي يرفض فريق التيار السياسي والرئاسي منحَه لها.
  • عدم وجود معيار جدّي وثابت في تمثيل الأطراف السياسية في الحكومة، ولا في نوعية الحقائب الوزارية التي تسنَد اليها، وهذا يعكس تفاوتاً وعدم مساواةٍ أو توازن، بين كتلة وأخرى، وعلى سبيل المثال كتلة نيابية من 15 وزيراً تُعتمد معها تقسيمة وزير لكلّ 3 نواب، مقابل كتلة من 17 نائباً تُعتمد معها تقسيمة وزير لكلّ 5 أو 6 نواب، وكتلة من 20 نائباً تُعتمد معها تقسيمة وزير لكلّ 3 نوّاب. وكتلة من 9 نواب تُعتمد معها تقسيمة وزير لكلّ 3 نواب، وكتلة أصغر من 4 نواب، تُعتمد معها تقسيمة وزير لكلّ نائبين. هذا الأمر أدّى حالياً إلى نشوب ما تسمّى «حرب الأحجام»، التي ما زالت مستمرّة ومحتدمة وتضع الحكومة على نار التأخير والتعطيل.

من الطبيعي في غياب الضوابط أن تتكاثر التعقيدات، فكيف إذا كان مقروناً بفجَعٍ على الحقائب. ومن الطبيعي في هذا الجو أيضاً أن تبقى الحكومة في غرفة العتمة، خصوصاً أنّ مجريات الساعات الاخيرة، لا تؤشّر إلى أنّ الأفق الحكومي مفتوح على تأليف سريع، بل قد يكون مفتوحاً على مزيد من الاشتباك على الحصة المسيحية بين التيار والقوات، وبالتالي مزيد من التأخير. إلّا إذا كان لدى رئيس الجمهورية مبادرةٌ ما لحلحلةِ العقدة المسيحية، وإلّا إذا كان أيضاً، الرئيس المكلف يُحضّر، أو يُخفي مفاجأةً ما خلال هذا الأسبوع.