Site icon IMLebanon

«الحل لا يأتي بالرومانس»

كل من اعتقد أو توهم يوماً أن الحلول في «سورية الأسد» قد تنجز حبياً، أو تأتي بالرومانس، جاءته الإجابة القاطعة من «سيادة الرئيس» شخصياً بأن ذلك غير ممكن. وربما، لولا بعض الأقوال المأثورة لسيادته في السنوات القليلة الماضية، من قبيل «نحن لا نقصف الناس بالبراميل» (والطناجر)، لكان يمكن إدراج العبارة الأولى ضمن خانة «الأقوال الخالدة». فهي تختصر عقلية بشار الأسد ومنهجيته في مواجهة الثورة منذ يومها الأول، والتي تبين اليوم أنه يطبقها ليس بسبب انقطاعه أو انفصاله عن الواقع، كما وصفه صحافيون غربيون بعد مقابلته، بل لأنه ببساطة يعلم جيداً ماذا يفعل ويخطط له بدم بارد.

وكانت العبارة جاءت في تسريبات المراسلات الأخيرة التي نشرها موقع «ناو» اللبناني (# الأسد – ليكس) وكتبها الأسد رداً على طبيبة مقيمة في باريس قائلاً أن «كل ذلك ثمن طبيعي لأي أزمة، والحل لا يأتي بالرومانس». كان ذلك في أيلول 2011، أي في بدايات الثورة، حين كانت لا تزال سلمية وقبل وقت طويل نسبياً من التصعيد العسكري للنظام الذي بلغ حد استخدام أسلحة كيماوية وبراميل متفجرة وغير ذلك مما يفترض أنه محظر دولياً.

أما محلياً، وفي أيلول 2011، فبدا للسيد الرئيس أن تعذيب أطفال درعا واقتلاع أظافرهم وإرجاعهم جثثاً متورمة لذويهم وغير ذلك من التنكيل هو «ثمن طبيعي». لكن، اليوم بعد خمس سنوات على هذه المجزرة المتواصلة في سورية كلها، هل يمكن الحديث عن «ثمن طبيعي»؟ هل بقي أي معيار «طبيعي» أصلاً (محلياً أو دولياً) يمكن القياس عليه؟

لكن الرئيس لا يأتي بالحلول من عدم، بل يستعين بأصدقاء ومستشارين وكل حريص على ذلك «الأبد» الذي أورثه إياه والده. وهو إلى ذلك، يقيس على تجارب سابقة، لا سيما إذا كانت ناجحة، كما في لبنان. فكيفية التعامل مع طلاب «التيار الوطني الحر» مثلاً، التي بدأت منذ نهاية التسعينات وأعطت ثمارها بعد نحو عشر سنوات، هي تحديداً ما نصح به خالد الأحمد، الموصوف بالمسؤول الإقليمي (السابق) المكلّف الإشراف على مدينة حمص. فالرجل وفي رسالة وجهها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 إلى الأسد، لفت إلى أن «التحدي الطلابي هو الأخطر»، وأن المواجهة الأمنية لا تجدي نفعاً إلا كمسكن موقت، بدليل أن «طلاب التيار الوطني الحر والتنظيمات الأخرى التي واجهناها أمنياً في الجامعات هم ذاتهم من خططوا ونظّموا لما شهدناه في ساحات بيروت 2005».

لذا، فإن الخيار الأفضل وفق الأحمد هو «استخدام قوة العقل والحجة والإقناع لجعل هؤلاء ذاتهم يخرجون ويقاتلون معنا»، وهو ما حدث عملياً. فقائد الجيش السابق، وزعيم «التيار» ميشال عون، الذي دخل في حرب مدمرة ومعروفة النتائج سلفاً، شعارها «تكسير رأس حافظ الأسد»، هو اليوم أول المدافعين عن رأس الأسد الابن وحليف سياسي لمن يقاتل في سبيله.

هكذا، بعد نفي عون إلى فرنسا لسنوات، وسجن وتنكيل وهجرة قسرية لشباب تياره تحديداً عدا عن بقية اللبنانيين، اقتنع هؤلاء بالحجة والبرهان، إن «تحالف الأقليات» في المنطقة، خير من حكم التكفيريين، وأن بطش «البعث العلماني» خير من بطش «الدواعش» الذين سيهبطون علينا من خلف الجبل إن لم نذهب إليهم في القصير والقلمون. ولمزيد من حماية الأقليات، لم لا يستعان بأحد أبنائها الأبرار لنقل متفجرات وتنفيذ اغتيالات وتصفية حسابات لا زالت عالقة منذ 2005؟

ذلك كله بالعقل والمنطق طبعاً، وليس بالرومانس. وكما في سورية، كذلك في لبنان. من تقنعه الحجة، فلحسن حظه ومن لا يقتنع، فليودع أمه ومحبيه.

إنها ببساطة استعادة نظرية وتطبيقية لمقولة خالدة سابقة «شعب واحد في بلدين»، ولكن بطريقة حديثة، تليق بطبيب عصري وشاب. هكذا نجح الأسد في إبرام «مصالحات» كثيرة داخل بلده، مع شرائح أعلنت توبتها عن الثورة، وشغلت عقلها والمنطق.

نقرأ اليوم رسائل قديمة. لا سياسة خارجية فيها ولا تحالفات إقليمية ولا ضغط دولي، بل معادلة علمية وواضحة، فيها من البداهة ما يجعل المرء يشكك برجاحة عقله. كم من الجد والهزل بالتحكم بمصائر الأفراد والجماعات ما يثير الفصام. تماماً كلوحة ماغريت التي تصور غليوناً ثم تقول «هذا ليس بغليون».

الحل لا يأتي بالرومانس. هل يختلف اثنان على ذلك؟ أليست كل الملاحظات والانتقادات التي سجلت على مسار الثورة السورية في السنوات الخمس الماضية تصب في افتقارها للتخطيط والرؤيا وبمعنى ما استغراقها في «الرومانس»؟ ألا نقول اليوم في محصلة عامة ومن موقع مؤيد للثورة، أن ما يجري «ثمن طبيعي» لنجاحها وأن كل ما سبق مرحلة انتقالية فيها؟

في 2011، لم يحتمل الرئيس مزاح أطفال، لأنه وحده مسموح له المزاح والسخرية. لم يحتمل «رومانسية» شباب نزلوا إلى شوارع مدنهم وأحيائهم يطالبون باستعادتها، فهو وحده يحق له التنزه تحت المطر في جادة الشانزيليزيه ممسكاً بيد «وردة الصحراء»… فكيف نتوقع «منطقياً» أن يحتمل إهانة لحقت به وبجيشه الباسل في بيروت 2005؟

فعلاً، لا بد من استخدام قوة العقل والحجة والمنطق، لأن نقتنع جميعاً أن ما جرى ويجري هو «ثمن طبيعي» لرومانسية يبدو أننا محكومون بها.