ميلاد السبعلي
بالتزامن مع اجتماع قادة العالم في الأمم المتحدة، بدأنا نسمع عن مشاريع ومقترحات لحلول للوضع المتفجر في لبنان، والابادة الجماعية المستمرة منذ سنة في غزة. فكان لا بد من تحليل واقع الأمور على الأرض، والموقف الإسرائيلي والأميركي، بغية الإضاءة على احتمالات المرحلة المقبلة، حتى لا تتلاعب بالرأي العام المحلي أوهام وأفكار يسوقها الإعلام، إما عن عدم معرفة، أو عن خطة لتشويش الوقائع.
الموقف الإسرائيلي
نتنياهو، بعد أن سوّف في كل الحلول المطروحة لوقف النار في غزة، منذ طرح بايدن في تموز الماضي حتى الآن، ووضعه الشروط الإضافية كل مرة يقترب فيها المفاوضون من الوصول الى اتفاق لوقف النار، قرر نقل المعركة الى لبنان، لحرف التركيز عن غزة، وكسب المزيد من الوقت، حتى يحين موعد الانتخابات الأميركية، والتي كانت واضحة مراهنته على فوز ترامب، وعدم رغبته بتقديم أي إنجازات للإدارة الديموقراطية، قد تستفيد منها هاريس، في كسب ودّ مجموعات مؤثرة سواء من الشباب الأميركي أو تيار اليسار في الحزب الديموقراطي، أو الاميركيين من اصل عربي أو إسلامي، إضافة طبعا الى اللوبي اليهودي. لذلك كانت سياسة بايدن وبلينكن في البداية دعماً كاملاً لنتنياهو في غزة، ثم مع اقتراب موعد الانتخابات، محاولة تصوير موقفهم بأنه معتدل ومتوازن ويدعو الى وقف إطلاق النار في غزة. واستمر نتنياهو في رفع اسقف أهدافه في حربه مع لبنان، كما فعل في غزة، بشكل يستحيل تحقيقه. فقال ان هجوماته المتكررة على حزب الله، من خلال الاغتيالات او تفجير البايجر وأجهزة اللاسلكي، أو التدمير وقتل المدنيين، هو إعادة المستوطنين الى شمال فلسطين. الأمر الذي رد عليه السيد، بأنها لن تحصل مهما فعل العدو. واعتمد نتنياهو في تصعيده استراتيجية الضربات القوية المتتالية، لعل ذلك يؤدي الى كسر إرادة حزب الله، وتأليب الشعب اللبناني وبيئة المقاومة ضده من خلال ضغط النزوح والخسائر المدنية الكبيرة وتدمير القرى. وترافق كل ذلك مع حملة مدفوعة قادتها وسائل إعلام لبنانية وعربية، وسياسيون لبنانيون، ركزت على أن الحزب قد هزم، وبدؤوا يطرحون حلولاً ليس اقلها تسليم سلاحه للدولة!
غير أن امتصاص الحزب للضربات القوية، وتماسك قيادة العمليات عنده، ودحض ادعاءات العدو من أنه قد دمّر معظم قوة حزب الله وقدراته الصاروخية، كما فعل في بداية حرب 2006، إضافة الى الاحتضان الواسع للمهجرين في معظم المناطق اللبنانية، وصمود معظم هؤلاء المهجرين برغم الدمار والتهجير والقتل، كل ذلك أفشل الحملة العسكرية والدعائية الإسرائيلية، وجاءت الردود بمئات الصواريخ يوميا، وتوسيع مداها، وصولاً الى التحذير بإطلاق صاروخ بالستي على ضواحي تل ابيب، قد أنبأ أن استراتيجية نتنياهو لن تؤدي الى نتيجة، ولا يمكن فصل الجبهة في لبنان عن جبهة غزة، أو إرغام الحزب على القبول بوقف للنار في لبنان بشكل منفصل عن غزة. وهذا يعني أن الإسرائيلي سيضطر، بحجة العمل على إعادة المستوطنين الى شمال فلسطين، الى محاولة الدخول البري الى لبنان، وهي مخاطرة غير مضمونة النتائج، وتجربة الـ 2006 ما زالت راسخة في ذهن جيش العدو، مع أن الظروف تغيرت، وأي محاولة للدخول ستؤدي الى احتمالات أخطر مما هو حاصل اليوم، تتضمن دخول مجموعات من الحزب الى بعض مناطق الجليل، وتوسيع الضربات واستخدام الصواريخ الدقيقة والبالستية والفرط صوتية، مما يؤدي الى تفاقم الأوضاع داخل الكيان. وقد أدت استراتيجية الضغط على لبنان من خلال التهجير والتدمير، الى ارتدادات على الداخل الإسرائيلي، برغم التعتيم الإعلامي المفروض من الجيش، حيث إن صواريخ الحزب أدت الى دمار في مرافق حيوية، والى المزيد من التهجير، والى تعطيل الحياة في شمال فلسطين المحتلة، والتي فصّل السيد في أحد خطاباته، أهميتها الاقتصادية الاستراتيجية لكيان العدو. لذلك بدأنا نسمع أصواتاً من داخل الكيان، تسخف اداعاءات تدمير البنية التحتية للمقاومة في لبنان، وتؤكد أنها ما زالت بجهوزية عالية وتحتفظ بقدرتها على المزيد من التصعيد، ولفترات طويلة. كما بدأنا نسمع تلميحات بإمكان قبول نتنياهو وحكومته المتطرفة بحلول مثل الطرح الأميركي الحالي.
الطرح الأميركي
يربط هذا الطرح وقف اطلاق النار في لبنان بوقف اطلاق النار في غزة، والتفاوض على حل على الجبهتين، من خلال إعادة الأسرى من حماس، وانسحاب إسرائيل من مناطق حساسة في الضفة، وتراجع حزب الله لبضعة كيلومترات عن الحدود. ويحاول الأميركي اقناع نتنياهو بأنه يستطيع، إن قبل هذا الطرح، أن يقول إنه حقق عودة المستوطنين الى شمال فلسطين، واستعاد الاسرى، على أمل أن يؤدي ذلك الى هدنة طويلة.
الإدارة الأميركية الحالية، تحتاج الى حل كهذا لتأمين فوز سهل للمرشحة الديموقراطية على ترامب. وهذا ما تفضله عدة مفاصل من الدولة العميقة في أميركا، بخاصة أن ذلك يعطيها دوراً كبيراً في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بعد انتهاء حروب غزة ولبنان. نتنياهو يراهن في المقابل، بأنه يستطيع أن يسوّف قدر المستطاع، حتى يمرر الانتخابات الأميركية، دون أن يعطي هدية للديموقراطيين. وهذا التسويف قد يأخذ أشكالاً عديدة، منها إطالة أمد التدمير في لبنان، مع ما قد يجره ذلك من توسيع الردود من حزب الله، سواء لناحية نوعية الأسلحة المستخدمة، وطبيعة الردود، أو لجهة توسيع نطاق القصف ليصل الى مناطق أوسع داخل فلسطين المحتلة. وقد يسوّف نتنياهو من خلال وضع الشروط الإضافية التي قد لا تقبلها المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية.
في المقابل، تفضل إيران فوز الديموقراطيين، حيث ان مفاوضاتها معهم قطعت شوطاً كبيرا، سوءا في موضوع الاتفاق النووي، أو في مجال توزيع النفوذ في المشرق العربي والخليج، وحيث ان فوزهم يعطيها أدواراً دولية، مثل تسهيل التفاوض مع حليفها الروسي في حرب أوكرانيا. ولذلك حاولت خلال المرحلة الماضية امتصاص استفزازات نتنياهو لجرها الى حرب مباشرة وتوريط الأميركان، على أبواب انتخاباتهم. وارسلت رئيسها وإدارته الجديدة الى أميركا، بمواقف اقرب الى مواقف الحمائم في المنطقة، لمحاولة المساعدة على التوصل الى حل في المنطقة، يحفظ للمقاومة هامش القول انها انتصرت لأن حرب المساندة في لبنان انتجت وقفاً لإطلاق النار في غزة، وحافظت على ربط الساحتين، وفي الوقت نفسه، يعطي الإدارة الأميركية الحالية هامشا للمناورة ومحاولة إقناع نتنياهو بالقبول بالطرح الأميركي المزدوج. وهذا الموقف من الديبلوماسية الإيرانية أزعج الكثيرين من حلفاء المقاومة في لبنان في البداية. ولكن تردد نتنياهو، الذي لا يفهم الا بلغة القوة، في قبول الطرح الأميركي، او التخوف من تسويفه له الى حين حصول الانتخابات الأميركية، جعل الديبلوماسية الإيرانية تنفي بعضاً من التصريحات الأولى في نيويورك، وتعيد التأكيد على قوة حزب الله وحرية قراره. وكأن موقفها، المتفقة عليه مع الإدارة الأميركية على ما يبدو، يختصر بأنه إن لم يقبل نتنياهو الطرح الأميركي، فليصعد حزب الله ضرباته المؤلمة، قبل الانتخابات الأميركية، لعل ذلك يؤدي الى تليين موقف نتنياهو، وزيادة الضغوط الداخلية عليه، في ظل انعدام الوزن الأميركي وقدرة الإدارة الحالية وحلفائها الغربيين على فرض الحلول على نتنياهو.
يبقى القول إن الروسي يفضل وصول ترامب. وهو ليس متحمساً لحلول تشكل هدية للديموقراطيين في معركتهم الانتخابية. وعلى ما يبدو، أنه متفق مع حليفه الإيراني، بشكل لا يخلو من المنافسة، أن كل منهم يدعم مرشحه في الانتخابات الأميركية، ومن يفوز مرشحه، يعمل على تسوية الأوضاع بين الإدارة الأميركية المنتخبة، وحليفه في المنطقة. فإن فاز ترامب، يعمل الروسي على مفاوضات أميركية إيرانية جديدة. وان فازت هاريس، يدخل الإيراني في مفاوضات لحل مسألة حرب أوكرانيا. ولذلك، يعمد الرئيس الروسي الى زيادة الضغط على الأميركيين والغرب، من خلال التهويل باستخدام السلاح النووي اذا لزم في أوكرانيا.
الخلاصة، أن الإدارة الأميركية الجديدة وحلفاءها، سيحاولون الضغط للتوصل الى حل ديبلوماسي لوقف الحرب التدميرية الحاصلة في غزة ولبنان. ولكن بدون قوة حقيقية للضغط على نتنياهو سوى صواريخ حزب الله، مع ضبطها من خلال الديبلوماسية الإيرانية. وبذلك، من الصعب اقتناع نتنياهو بدون جولات عسكرية جديدة وصولات صاروخية واسعة، يرافقها طبعا استمرار العدوان الهمجي اليهودي على لبنان وغزة. وإلا، فالحرب ستستمر بوتيرة متفاوتة، تشهد تهدئة حينا وتصعيداً حينا آخر، دون التورط في حرب برية في لبنان، حتى تاريخ حصول الانتخابات الأميركية. فإن فاز ترامب، ينتعش نتنياهو، ويدخل الروسي بقوة على خط الحلول في المشرق العربي. وإن فاز الديموقراطيون، يسارع نتنياهو الى القبول بالحلول وبدء النزول عن الشجرة، مع المحاولة المستمرة للتسويف وكسب النقاط، كونه عاجزا عن كسب الحروب.
وبناء عليه، تفصّل الحلول الجزئية الأخرى، مثل الانتخابات في لبنان ودور حزب الله وإعادة الإعمار ودور الدول الإقليمية وتوزيع نفوذها. ولذلك نرى أن الكثيرين من المتعاطفين مع نتنياهو ولو بالسر، في لبنان وبعض الدول العربية، يراهنون على وصول ترامب، عل ذلك يحد من نفوذ إيران في المنطقة، والحزب في لبنان. والعكس صحيح. يبقى أن الدمار والشهداء والتهجير، يعتبرها الغرب كخسائر جانبية، Collateral Damage، يعاد تعويض بعضها بحسب أي شرق أوسط جديد سينشأ بعد هذه الجولة، ومن سيقوم بالتالي بتمويل إعادة الإعمار على كامل مساحة الهلال الخصيب، وضمن أي شروط، وأي توزيع للنفوذ، حيث إن هذه الجولة من الحرب، هي مرحلة متقدمة من الصراع على المنطقة، بعد أن تم تدمير العراق والشام، وتحييدها جزئياً من المعركة.