Site icon IMLebanon

بعض جمهور الثورة السورية أسوأ أعدائها

أسوأ ما في الثورة السورية، هو بعض عتاة المدافعين عنها. كان يكفي أن أدلي بموقف يتفهم الطبيعة الأمنية لعملية للجيش اللبناني في أحد مخيمات النزوح، حتى يصير الموقف تعبيراً عن استدارة سياسية أقدمت عليها، أو التبني المطلق «للمجازر» بحق اللاجئين السوريين. أما الخلفية، أي خلفية هذه الاستدارة المفترضة، فهي إما فواتير أدفعها لـ«حزب الله»، أو بسبب «شيعيتي» التي تنبه بعض العتاة لها بعد نحو ست سنوات من الثورة.

سرعان ما أدرج موقفي من عملية عرسال، حيث أقدم بالمناسبة خمسة انتحاريين على تفجير أنفسهم أثناء الدهم، في خانة عنصرية لبنانية متأصلة تجاه السوري. وسرعان ما استوى السجال بين سوريين ولبنانيين لا يرون في النزوح إلا شكله الإنساني الخالص، المنزه حتى عن اختراق «داعش» أو «النصرة» له، من جهة، وبين لبنانيين يستفظعون أي مساءلة للجيش عن أفعال تخللت الدهم، وأعقبته.

هو صدام بين ضحوية سورية مطلقة ووطنية لبنانية مطلقة، لا تقبل أي منهما ذرة شك أو استطراداً أو تركيباً في الموقف. لاجئون على حق مطلق، تسنده المعاناة وفظاعة الألم النازل بهم، ووطنيون لبنانيون تسندهم كل أدبيات وسلوكيات الشوفينية، والنظرة الطهرانية للذات، الفردية والعامة، وذاكرة مريرة مع اللجوء الفلسطيني وتبعاته على لبنان.

وهو في مكان آخر صدام بين استعلاءين طبعا ملامح الهويتين السورية واللبنانية. بين اللبنانيين يكثر السلوك الاستعلائي، ليس فقط على السوريين بل على لبنانيين آخرين. ثمة ميل حاد لتظهير الفوارق الثقافية والطبقية كملمح مركزي رافق تشكل الهوية الوطنية اللبنانية. وبين السوريين يكثر الازدراء للبنان الوطن الصغير «المصطنع» والدولة الضعيفة، والجيش الأقرب إلى المدنية منه إلى عسكر بقية العالم العربي. وهذا الازدراء ملمح مركزي هو الآخر رافق تشكل الهوية الوطنية السورية، التي ظلت تعتبر أنها أكبر مما «أعطي» لها.

وما يفاقم فظاعة هذا التصادم، الذي أخذ شكله العاري في ردة الفعل على موقف لي «تفهم» حاجة الجيش لإجراء أمني قاسٍ في مواجهة اختراق الإرهاب، هي العلاقة المهتزة مع الجيش اللبناني.

لا ينكر عاقل أن الجيش، كما عموم مؤسسات النظام السياسي اللبناني، خاضع لمنطق توازن القوى مع «حزب الله»، ولتأثيرات «حزب الله» وموقفه. كما أن التجربة الماضية مع الجيش في مفاصل رئيسية، فاقمت اهتزاز الثقة به، كيوم اجتاح «حزب الله» بيروت وجبل لبنان عام 2008، ووقف الجيش على الحياد، أو في المعارك التي اتخذت أبعاداً مذهبية وقاتل فيها «حزب الله» إلى جانب القوى الشرعية، من دون القدرة على مساءلته. وبالتالي لا ينطلق تقييم موقف الجيش وأدائه في أي موقف من منطقة محايدة، بل من اتهام مسبق يدغم موقف الجيش بموقف «حزب الله»، وهذا على ظلمه إلا أنه حقيقة واقعة في ذهن لبنانيين وسوريين.

في هذه اللحظة، وبعد عملية عرسال بأيام قليلة، تفجرت الأنباء عن موت عدد من الموقوفين السوريين في العملية نفسها، ما جعل كل التهم والأخبار والروايات التي ازدهرت خلال العملية وبعدها أخباراً ثابتة. فلا انتحاريين بين النازحين. ولا مفجرين فجروا أنفسهم وقتلوا أفراداً من عائلاتهم. والطفلة طحنتها آلية للجيش، ولم يفتت جسمها الطري والدها الانتحاري الذي فجر نفسه وهي على مقربة منه خلال عملية الدهم. أداء الجيش وبياناته عن تفاصيل ما جرى، زادت القسمة. من لا يقبل المساس بالجيش اعتبر الرد كافياً، مدعوماً بحقيقة أن أحد الجنود فقد بصره خلال عملية الدهم. ومن لا يعرف إلا تنزيه النازحين واللاجئين وجد في سلوك الجيش ضالته.

الحق يقال، إن موت موقوفين على يد الجيش اللبناني خلال التحقيق، لا يستقيم مع صورة الجيش عند عموم اللبنانيين. فليس في تاريخ التجربة اللبنانية جيش يموت موقوفون لديه، ولا هو اشتهر بقسوة معظم الجيوش المعهودة عربياً. ولو صحت الأنباء، التي ينبغي أن تصح أو تصحح من خلال تحقيق شفاف ومحايد، فإنها ستكون خيبة أمل كبيرة للبنانيين كثر، ما عهدوا جيشهم هكذا.

ليست المسألة مسألة وطنية صرفاً. الحقيقة أن طموح ضباط الجيش اللبناني، كان دائماً طموحاً مدنياً. يستسيغ الضابط اللبناني اللباس المدني، والسلوكيات المدنية أكثر من مباهاته بالمظهر العسكري. يتقاعد الضابط وعينه على السياسة، نائباً أو مختاراً أو رئيساً للبلدية أو ما شاكل. إذّاك، لو صحت الأنباء سنكون أمام تطور خطير في عقلية العسكر، وأمام أسئلة خطيرة عن معنى ذلك بالنسبة للبنان ومؤسساته.

أما على ضفة الثورة السورية وجمهورها، فالدروس المطلوب تعلمها أكبر. لا يُخاض نضال بأدوات لا تشبه القضية وقيمها. إذا كان السوريون يقاتلون دفاعاً عن حقهم في الحرية والحياة، فالأولى أن يقبلوا حرية غيرهم في أن يختلف معهم في تقييم أو موقف أو قراءة أو تصور. من يقفون معكم ليسوا مياومين. المياومة استئناف دائم، لا تراكم، تاريخاً، ولا مساراً، ولا سياقاً.

بعض عتاة المتحمسين للثورة يريدون أنصارهم مياومين، تنتهي العلاقة بهم عند أول اختلاف، كأن شيئاً لم يكن. بمثل هذا العقل وهذه الأخلاق وهذا الضيق السياسي ونكران الجميل والعصبية المريضة تهزم الثورات.