Site icon IMLebanon

بعض معاني الانتخابات البلدية في لبنان

أوهم مشهد الانتخابات البلدية الآفل في لبنان وكأن ثمة تحولاً ديموقراطياً جذرياً على صعيد التكوينات المدنية والأهلية سيقلب الصورة النمطية التقليدية المتوارثة للانتخابات اللبنانية. لكن الأحلاف الانتخابية وخطابها السياسي الغالب، إضافة إلى المحصلة التي فرزتها، أفصحت عن زيف الشعارات السائدة ومخادعتها، فضلاً عن هشاشة المفهوم الديموقراطي المتداول، والتباسه وفراغه من مضمونه، واستمرار هيمنة العقل القروسطي على السياسة اللبنانية، وإمعانه المتواصل في تخلف المجتمع اللبناني وتكريس مراوحته وتردده في الانخراط في المنظومة الحداثية بما تعنيه من مساواة مواطنية وحقوق إنسان ومجتمع مدني.

من هذه الزاوية نجد أن تجربة الانتخابات البلدية الأخيرة في لبنان انطوت على ملامح وسمات تتشابه في جزء كبير منها مع «التجارب الديموقراطية» في العالم العربي، فقد جاءت معبّرة عن حالة الإحباط الديموقراطي التي يعاني منها. من هذه الملامح والسمات:

أ – ضآلة المشاركة الشعبية في الانتخابات بحيث ظلت في الغالب تتراوح بين العشرين والأربعين في المئة، فيما وصلت في بيروت إلى ما دون العشرة في المئة. ما يمكن تفسيره، إما باللا مبالاة الأكثرية الشعبية بعملية الانتخابات، وإما لاعتقادها بأن كل شيء مبرمج سلفاً، أو لجهلها بما يجري وخلفياته وجدواه. وإذا اعتبرنا أن أصوات الذين اقترعوا توزعت بين الفائزين والخاسرين، لأمكن القول إن العمل البلدي سيكون أقلوياً، شأن سائر البيروقراطيات العربية.

ب – كرست الانتخابات البلدية في لبنان نموذج الثنائية والانتظار، القائم في العالم العربي، بين دولة «موحَّدة بالقوة» من فوق، من جهة، ومن الجهة الأخرى مجتمع فسيفسائي ممزق بالعصبويات الطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية تتنازعه ثنائيات التقليد والحداثة، والتجدد والأصالة، والفقر والثروة. فالدولة المركزية اللبنانية التي أثبتت تفوقها الأمني والعسكري وأدارت اللعبة الانتخابية بتخطيط منهجي وثقة عالية بأجهزتها الأمنية والمخابراتية، لم يكن في وسعها أن تخفي حالة التشرذم والتفتت والتجزئة القائمة في صلب المجتمع. إذ سرعان ما مورست منهجية العزل والإقصاء بين الطوائف والعصبيات. وإذ تم تجاوز هذه المنهجية، كما في العاصمة بيروت، بفعل ائتلاف فوقي جمع بين متناقضات، لا رابط إيديولوجياً في ما بينها، جاء المجلس البلدي في طرابلس، ثاني أكبر المدن اللبنانية، خالياً من أي ممثل للأقليات الطائفية والمذهبية، ما يتناقض أساساً مع التوجه الديموقراطي في مجتمعات ما قبل ليبرالية، لم تبلغ حد التجانس المواطني.

ج – الخطاب السياسي الذي تم تداوله، كان في الأغلب خطاباً ما قبل حداثياً، ركز على الانتماء الجهوي أو الطائفي أو المذهبي، داعياً إلى وحدة الصف، وتحصين المدن والبلدات في مواجهة التحولات السياسية والاجتماعية من خلال تحالفات مذهبية وطائفية. أليس هذا ما عبّر عنه مصطلح «لائحة البيارتة» أو «قراوصيدا» أو تحالفات عون والقوات، وأمل وحزب الله.

د – أشارت الانتخابات البلدية إلى أزمة عميقة بين النخبة والمجتمع في لبنان، يمكن ملاحظتها بجلاء من خلال محدودية دور الليبراليين والعلمانيين في المجالس البلدية، على رغم تمتع لبنان بنسبة عالية جداً من الجامعات والجامعيين، وانفتاحه الرائد على الفكر الليبرالي والعلماني. فلم يتمكن أي مرشح من لائحة «بيروت مدينتي» على سبيل المثال، من اختراق لائحة ائتلاف الطوائف والمذاهب، فيما لم يسجل مرشحو شربل نحاس أكثر من حضور رمزي لا يعتد به.

د – لم تتضمن البرامج الانتخابية بصورة جدية تصورات مستقبلية لكيفية مواجهة الخلل الديموغرافي والبيئي والاجتماعي المتمثل في تريف المدن وتلوث البيئة وندرة المياه والبطالة واتساع أحزمة الفقر، فضلاً عن مشكلات التعليم والصحة، مع أن البلديات يمكن أن تلعب أدواراً، ولو محدودة، في صيانة المجتمعات واحتضانها ووقايتة بعض عللها وآفاتها.

هكذا تكون المحصلة الأساسية من خلال المشهد الانتخابي البلدي اللبناني، هي عسر الاندماج الوطني وقصور الرابطة الوطنية، حيث النتائج محسومة سلفاً للعصبيات الطائفية في مناطق وجودها الجغرافي – العصبية السنية في بيروت وطرابلس وصيدا، العصبية الشيعية في الجنوب والبقاع، العصبية الدرزية في الشوف وعاليه، العصبية المارونية في جبل لبنان. وجه الإشكال في هذا كله، في رأينا، أن حداثتنا السياسية زائفة، مخادعة، مفرغة من قاعها الليبرالي. فالديموقراطية الحديثة قامت على خلفية ليبرالية سبقتها ومهدت لها، وقد انقضى زمن ليس بالقصير حتى اتجه الغرب الليبرالي في الاتجاه اليدموقراطي – فرنسا مثلاً لم تصبح ديموقراطية الا بعد مئة وخمسين عاماً على ثورة 1789 ولم تمنح حق التصويت للنساء حتى عام 1945 – إما ديموقرطيتنا فما هي إلا مظهر حداثي، يثوي وراءه عقل ما قبل حداثي، آلية ديموقراطية على قاع قروسطي. وما لم نكسر هذه الحلقة المفرغة ونتجه إلى بناء مجتمعنا على أساس الانتماء المدني والمواطني، فإننا سننتظر طويلاً كي نندرج في سياق الحداثة ونمارس الديموقراطية بالفعل.