كثيرا ما نلجأ في هذه الزاوية إلى الأرقام. مع الأسف، لا أرقام لافتة هذه الأيام إلا عدد ضحايا الغدر والإجرام الأعمى على يد تنظيم «داعش» الإجرامي.
قرابة خمسمئة قتيل، كلهم أبرياء، سقطوا في بضعة أيام على يد الإرهاب الأسود. أيّ واحد منهم لم يقترف ذنبا أو يرتكب معصية، ذنبهم الوحيد أن السفاحين ذوي الشعارات السوداء والقلوب السوداء حكموا عليهم بالإعدام.
سياح روس مسالمون عائدون إلى بلادهم تتفجّر طائرتهم فوق شبه جزيرة سيناء. فقراء في برج البراجنة يعملون، كعادتهم، بكدّ وتعب لتحصيل لقمة العيش، أو يهتمّون بأطفالهم، أو يتمتعون في مقهى شعبي بمساحة قليلة من المتعة تركتها لهم الحياة، تتحوّل أجسادهم بلحظة إلى بقع من لحم ودم، وبيوتهم إلى دمار وركام ورماد.
في باريس إمعان في إظهار البربرية القادمة من الشرق، حيث يقتل بدم بارد، ودون مسوّغ، أناس يتابعون مباراة في كرة القدم، أو يستمتعون بموسيقى راقية في مسرح من مسارح عاصمة الثقافة والنور.
ما جرى في باريس، على وجه الخصوص، يجعل من الشرق الإسلامي الضحية الأولى للإرهاب، قبل الأبرياء الذين سقطوا بنار الوحوش المتعطّشة للدم. جرائم باريس ومثيلاتها هي أفضل طريقة لزرع الشعور في الغرب والعالم بأن الثقافة الإسلامية هي ثقافة قتل وترويع وهمجية.
أن نتوجّه إلى القتلة وقادتهم بالقول إن هذا ليس من الإسلام في شيء هو مضيعة للوقت. فهم ليسوا مبشرين، ولا أصحاب رسالة دينية ولا غايتهم خدمة الإسلام. إنهم زمرة من السفاحين والقتلة الذين لا يرتوون إلا بالدم، تحركهم أجهزة مخابرات تسعى من خلال جرائمهم إلى تحقيق أهداف محض سياسية.
كيف يخرج الإسلام من هذه المحنة النادرة في تاريخه؟ هذا السؤال ينبغي أن يكون البند الأوّل في جدول أعمال المسلمين، في مختلف بلدانهم ومراتبهم ومواقعهم.
ولا يستطيع الغرب أن يتجرّد من المسؤولية عن نموّ منطق العنف والإرهاب، الذي يرتدّ الآن علينا وعليه. هذا الغرب «أكل رأسنا» منذ أيلول 2001، عندما حرّم البحث في أسباب الإرهاب ودوافعه، بدعوى أن كل بحث من هذا النوع يبرّر الإجرام ويجد له الذرائع والمسوّغات.
هذا القمع الفكري الذي مارسته الولايات المتحدة الأميركية، قبل سواها، منع تسليط الضوء على موضوع في غاية الأهمّية: إن القهر الذي يعيشه العرب، في فلسطين على وجه الخصوص، مقرونا بالحماية المطلقة التي تتمتع بها ممارسات إسرائيل وانتهاكاتها الشنيعة، هو المسؤول الأوّل عن ولادة البيئة الملائمة للإرهاب.
فقدان العدالة على أرض فلسطين، القتل العمد لعشرات ألوف المدنيين في القدس والضفة وغزة، اصطياد الآمنين بالدبابات والطائرات، التنكر المذل لحقوق الفلسطينيين الوطنية وحرمان الشعب الفلسطيني من هويته وأرضه، كلها ممارسات لا شبيه لها في القرن الحادي والعشرين. ممارسات حماها الغرب بأحدث الأسلحة الفتاكة، وبالدعم السياسي، وبحق الفيتو في مجلس الأمن وصولا إلى غض النظر عن الجرائم الإسرائيلية الشائنة ضد الإنسانية.
لا يعني ذلك أن هذا الوضع الظالم يبرّر قتل الآمنين في شوارع باريس أو في أبراج نيويورك، بل يعني أن الظلم يولد اليأس، واليأس يخلق الميل إلى العنف، والميل إلى العنف تستثمره العقول المتحجّرة والسياسات الشريرة، فتحوّله إلى إرهاب أسود.
الغرب، وحده، يملك مفاتيح المعالجة لحلّ المشكلة من أساسها، بالتحرّر من الابتزاز الإسرائيلي والحرص على الحدّ الأدنى من العدالة والإنصاف في قضية فلسطين.
من جهة أخرى، لا مناص من الاعتراف بأن الظلامية والتحجّر والعنف هي عناصر موجودة في بعض البيئات الاسلامية، تقابلها تيّارات اسلامية مستنيرة منفتحة على الإنسانية والحضارة، وتتوق إلى الأمن والحوار والسلام. إنها مستعدّة للحرب في سبيل الاسلام الحضاري والذود عن القيم الانسانية.
ولا يجب أن نخجل من القول بأن الغرب «الضحية» هو في أحيان كثيرة حليف حلفاء الظلاميين، ولم يبذل مجهودا يذكر لقمع هؤلاء ونصرة المتنوّرين. لم يعر الغرب مرّة اهتماما لصراع الثقافات في الشرق الإسلامي، ونصرة الذين قاوموا الجهل والرجعية، وقاتلوا واستشهدوا في معاركهم معها، بل كان في أحيان كثيرة يناصر القوى المتخلفة ضد القوى المتحضّرة. الأولوية عند الغرب هي للمصالح الاقتصادية، وهو يمارس سياسات براغماتية انتهازية من أفغانستان إلى شواطئ المغرب العربي.
معروفة هي منابع التزمت والتخلف التي تزوّد الإرهاب بالمدد المالي والسياسي والأيديولوجي. معروف من هو المتحجّر والمتخلف في العالم الإسلامي، ومن هو المنفتح الذي يعتبر التحجّر عدوّه وعدوّ أمته. والغرب، رغم نفوذه الكاسح في المنطقة وهيمنته عليها، لم يعتبر يوما أن المستنير حليفه والمتخلف عدوّه، بل اكتفى بإحصاء المنافع والدولارات.