في أواخر العام الماضي، غادر الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك شقة كان يقطنها مع زوجته على إحدى ضفاف نهر «السين» في باريس منذ العام 2007، حيث لم تعُد ظروفه الصحية تسمح له بالسكن في طابق علوي. كان رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سعد الحريري قد وضع الشقة تلك كعربون صداقة من العائلة بتصرف شيراك، الذي جمعته علاقة وثيقة برئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، منذ أن كان الأول رئيساً لبلدية باريس والثاني وافداً جديداً إلى عالم السياسة من بوابات المال والأعمال ودمشق والرياض على حد سواء، في ثمانينيات القرن الماضي.
كان وريث الحريري الأب، رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، حريصاً على تبيان دور الراحل «الرسالي»، في لبنان كما في الخارج، منذ أن صعد إلى المنبر لأول مرة خطيباً بالحشود التي صار أبوه أيقونة في مخيلتها الجمعية إثر اغتياله. لم يترك مبادرة إلا ووظفها في هذا الإطار. شقة باريس المذكورة مثال بسيط. فهي، وإن كانت «مبادرة» شخصية وعائلية، عكست رغبة الحريري الابن الدائمة بالتأكيد على إحدى مزايا والده: إرثُ علاقاته الخارجية الذي يصعُب على أي كان في لبنان مجاراته. كان الراحل صديقاً لرؤساء عرب وعجم ولملوك أيضاً. والصداقات تلك، كما تخيّلها الحريري الابن، تنتقل بالنسب. تحتاج لسنوات أو عقود لتُكتسب، بينما هي ملعقة الذهب في فمه منذ ولادته السياسية.
مع تتابع السنين٬ راح الحريري الابن يخسر رصيداً هائلاً كانت قد غذته شعارات الثأر من دمشق بعد العام 2005 ثم مواجهات 7 أيار 2008. فخرج من الحكومة والبلاد برغم إبرامه مصالحة مع الرئيس السوري العام 2009 انقلب عشيتها على خطابه السابق، قبل أن يحصل «انقلاب» حكومي عليه إثر نقله تهمة اغتيال والده إلى «حزب الله».
ومنذ ذلك الحين، أخفق في مواكبة مجريات السياسة المحلية. حاول تعويض ذلك عبر «تويتر» ولم ينجح. وجرب ركوب موجات التطرف ثم النزول عنها لكنه عجز. فراحت تلك الموجات تشكل لنفسها بيئات حاضنة، توازياً مع هدير الطائرات ونزيف الدم ونفير «الجهاديين» في سوريا المجاورة. ثم جاء من يخبره أنه قادر على إعادة إنتاج عصبية مبنية على شعارات سابقة، معطوفة على دعاية ركيكة قبل انتخابات العاصمة بيروت. جرب ولم يفلح. بل تابع مساره التراجعي.
قبل سنوات، وفيما كان سعد الحريري يُرسمل على علاقات والده الخارجية، راحت أرضيته الشعبية تميد من تحت قدميه. ظهر من داخل تياره فؤاد السنيورة ونهاد المشنوق وآخرون ممن حاولوا فتح أقنية خاصة مع الرياض والتأكيد أنهم، أيضاً، أبناء تجربة رفيق الحريري. وحده وزير العدل المستقيل أشرف ريفي طرق باباً مُختلفاً: في الوقت الذي كان سعد الحريري في بلاط أمير الكويت قبل يومين، كان الأخير يُعلن فوز اللائحة التي دعمها من عاصمة لبنان الثانية طرابلس. أكد ريفي، الذي تغلّب على أصحاب العلاقات الخارجية والمال، أنه الأقدر على مُحاكاة الشارع والتعبير عن عصبياته، وعلى تشكيل موجة خاصة به لا يحتاج إلى النزول عنها، وعلى الادعاء بأنه ابن تجربة الحريري الأب أيضاً، برغم ما في ذلك القول من تناقضات.
الثابت أن ريفي أعطى الحريرية بُعداً لم ينسبه مؤسسها الراحل إلى نفسه. فقد أخرجها من بوابة قصر، وأنزلها من طابق علوي. لكن ريفي بذلك يقضي على الحريرية السياسية، ولو أنه لا يُدرك ذلك.