هدأت عاصفة المغالين الغيارى على الجيش الذين هالهم أن يُسائل رئيس الحكومة قائد الجيش في موضوع إجرائي يقع في صلب مهام المؤسسة العسكرية. قطع رئيس الحكومة الطريق على المزايدين مردداً على مسامعهم ما يجب أن يسمعوه فقط بما يكّرس مبدأيّ المؤسساتية والمساءلة دون التطرق الى مضمون الاجتماع الذي يجب أن يقتصر على من يعنيهم الأمر. ربما غاب عن أذهان النفاثات في العقد أنّ مجلس الوزراء وبموجب المادة 6 من قانون الدفاع الوطني هو من يقرر السياسة العامة الدفاعية والأمنية ويعيّن أهدافها ويشرف على تنفيذها، وأنّ رئيس الحكومة بموجب المادة 10 منه يتولى السهر على تنفيذ مقررات المجلس الأعلى للدفاع، وأنّ مديرية المخابرات تزوّد رئيس مجلس الوزراء، نائب رئيس المجلس الأعلى للدفاع بكافة المعلومات بموجب المادة 20 منه. كما إنّ ما أورده وزير العدل لمحطة OTV بأنّ استدعاء رئيس الحكومة لقائد الجيش هو سابقة دستورية، وأنّ الكلمة الفصل بكلّ ما يعود للتدابير والإجراءات التي ينفذها الجيش للحفاظ على الأمن والإستقرار في البلاد تعود لرئيس الجمهورية بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، لا يتفق مع مضمون الدستور لا سيما في المادة 49 منه التي أدرجت رئيس الجمهورية من ضمن السلطة الإجرائية وليس كسلطة مستقلة وأناطت به دور القائد الأعلى للقوات المسلّحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء; كما أنّ المادة 64 من الدستور وفي البند السابع منها أعطت رئيس الحكومة صلاحية متابعة أعمال الإدارات والمؤسسات العامة والتنسيّق بين الوزرات وعقد جلسات عمل مع الجهات المعنيّة في الدولة بحضور الوزير المختص.
وفي هذا المجال، لا بدّ من الإشارة الى حقيقة يُدركها الجميع هي أنّ حقبة الوصاية السورية أرست ثنائية السلطة السياسية والسلطة الأمنية في لبنان ووضعتهما في موقعين متقابلين، وأذكت الطموحات السياسية لدى القادة الأمنيين خلافاً للدستور، كلّ ذلك في سبيل الإنقضاض على اتّفاق الطائف وتحجيم دور رئيس الحكومة. وقد كرّست الحكومات التي تعاقبت على لبنان منذ إتّفاق الدوحة هذا الشذوذ، لا بل راكمت المزيد من السلبيات في علاقة رئاسة الحكومة مع المؤسسات الأمنية بما يشكّل امتداداً لحقبة الوصاية. كلّ ذلك جعل السلطات الأمنية في مصاف السلطتين التشريعية والتنفيذية، بمعنى إسقاط سلطة جديدة من خارج الدستور على القرار السياسي اللبناني، مما أدّى إلى شراكات أمنية – سياسية استعصت على التفكيك وكرّست صعوبات كبيرة لدى محاولة مجلس الوزراء إقرار تعيينات عسكرية وأمنية وتسببت بفصول من التمديد يُدرك كلّ المسؤولين في لبنان إنعكاساتها السلبية على قدرات المؤسسات وشفافية العمل داخلها.
إنّ محاولة الاستثمار السياسي في موضوع علاقة الحكومة بالمؤسسات، ولا سيما العسكرية منها، وإدخالها في لعبة النديّة مع رئاسة الحكومة بدلاً من التحفيز على تعميق المؤسساتية لا يمكن فصله عن مسار الغوغائية والفوضى التي تصدّع السلطة التنفيذية من الداخل، بحيث تتشابك الصلاحيات بين الوزارات ويلعب بعضها دور العرّاب على بعضها الآخر. كما تحاول بعض القوى المتحالفة ظرفياً من خلال إطلاق يدّ الوزراء في التعيينات دون اتّباع آلية تراعي الكفاءة عبر المؤسسات المختصة إلغاء دور مجلس الوزراء وتحويله إلى مجلس دوقيّات أو مجلس إدارة لشركة قابضة في أحسن الأحوال مهمته المصادقة على قرارات الوزراء.
لقد أعطى الدستور اللبناني ما يكفي من الصلاحيات للحكومة ممثّلة برئيسها لإقرار السياسات العامة ومراقبة تنفيذها وتطبيق مبدأ المحاسبة، كما أعطاها صلاحيات التعيين باعتماد الإختصاص والكفاءة بمعزل عن الإعتبارات الطائفية، وهو لم يُلزمها بالمناصفة في التعيينات إلا فيما خصّ وظائف الفئة الأولى ولمرحلة إنتقالية. إنّ القفز فوق الدستور وإلغاء قواعد الحكم بما فيها المساءلة والمحاسبة وتحفيز دور المؤسسات، لصالح تكريس مواقع قوى واستئثار داخل السلطة، لا يبرّره أي تحالف سياسي ولا يعوّضه أي توافق وطني ولا يمكن أن يشكّل أي عامل استقرار على المدى المتوسط أو البعيد. فالخلافات السياسية ماثلة في الأفق حول أكثر من ملف وليس أقلّها الخلاف حول عودة النازحين والعلاقة مع سوريا وهي ستزداد تعقيداً كلما اتّجهت الأوضاع في سوريا نحو الاستقرار، وهي كافية للإطاحة بكلّ التفاهمات التي قامت عليها ظروف ملء الشغور الرئاسي وتشكيل حكومة استعادة الثقة حيث لا يعود مجديّاً بعدها أي تفاهم أو تحالف، وحيث تصبح الوعود المقطوعة بين الحلفاء الجدد كوعود فرديناند الخامس لملك غرناطة بعد سقوطها حين خاطبه قائلاً: «لا تشك في وعودنا، ولا تعوزك الثقة خلال المحنة فسوف تعوّض لك صداقتنا ما سلبه القدر منك».
عذراً دولة الرئيس، بعد سقوط غرناطة تنصّل الواعدون من وعودهم وأنشئت محاكم التفتيش وأحكَمت السيطرة على الدولة بدعوى حماية الدين من المارقين.