يضرب الإرهاب دول المنطقة من العراق وسوريا الى لبنان، والدول الأوروبية من فرنسا الى بلجيكا، ووصل أخيراً الى منطقة لاهور في باكستان حيث تبنّى تنظيم طالبان التفجير معلناً أنّه يستهدف المسيحيين، علماً أنّ مسلمين عدّة كانوا من ضحاياه. ويعتقد البعض أنّ ما يشهده العالم اليوم من إرهاب منظّم يأتي كردّة فعل على الحروب الصليبية التي عرفها التاريخ في أواخر القرن الحادي عشر وما بعد، غير أنّ أوساط سياسية تجد في ذلك أمراً مبالغاً به، ولا يجب العودة الى الوراء، بل المضي قُدماً نحو السلام والتلاقي والحوار.
فاضطهاد الحكم الإسلامي آنذاك للمسيحيين في الأراضي المقدسة والدعوات الى تحريرهم، لا سيما بعد تدمير كنيسة القيامة في العام 1009 بأمر من الحاكم بأمر الله الفاطمي، دفع بالمسيحيين الى شنّ هذه الحروب التي تطوّرت أسبابها الدينية والسياسية فيما بعد واستمرّت على مراحل. ولا تبرّر الأوساط نفسها هذه الحروب، بقدر ما تذكرها للإشارة الى أنّ الزمن قد مرّ عليها، ولا يجب أن تبقى في أذهان المسلمين المتطرّفين فيقومون بما يقومون به من إرهاب انتقاماً، أو كردّة فعل متأخّرة جدّاً لا سيما وأنّ هذه الحروب قد ولّت وانتهت الى معاهدات صلح مع المسلمين وحقّق كلّ من الطرفين فيها نجاحات من جهة وخسارات من جهة أخرى.
أمّا اليوم فلا مجال للعودة الى فرز العالم بأكمله على أساس ديني، وتقسيمه بين المسيحيين والمسلمين، على ما أشارت، لأنّ هذا الأمر لن يؤدّي به سوى الى حرب عالمية ثالثة، لن ينتصر في نهايتها أي فريق على آخر، بل سينهار العالم كلّه نظراً لوجود القنابل النووية والذرية التي من شأنها أن تفني دولاً بالكامل في غضون ثوانٍ. وإن لم تصل الأمور الى حرب كونية، فإنّ الإرهاب المستشري اليوم من قبل السنّة المتطرّفين والذين يريدون القضاء على المسيحيين يخدم إسرائيل بالدرجة الأولى التي تحلم بسيادة الديانة اليهودية على دول العالم كلّه.
وفيما يتعلّق بالدول التي تغذّي الإرهاب أو التعصّب الديني في المنطقة، وعلى رأسها السعودية وقطر وتركيا، فإنّها على ما قالت الأوساط نفسها، تهدف الى إحلال الدين الإسلامي فيها والقضاء على المسيحيين أو محاولة ترحيلهم الى دول الخارج، وقد أكّد ملك الأردن عبد الله الثاني خلال اجتماعه الأخير بأعضاء من الكونغرس الأميركي عندما أشار الى أنّ «الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يؤمن بالحلّ الإسلامي الراديكالي لهذه المنطقة». وكشف بأنّ «تدفّق الإرهابيين الى المنطقة هو جزء من السياسة التركية، فهو صفعة من جهة، ومحاولة للخروج من الورطة من جهة ثانية»، مضيفاً أنّ تركيا «تحاول استغلال أزمة اللاجئين ودخول الإرهابيين الى أوروبا من أجل تحقيق مصالحها».
غير أنّ مسيحيي لبنان لن يغادروا هذه الأرض، على ما شدّدت الأوساط ذاتها، وإن جرى تهجير وتشريد العائلات المسيحية في كلّ من العراق وسوريا وبعض الدول الأخرى، فقد حاول الكثيرون إقناع أبنائها بالهجرة طوال سنوات الحرب الماضية، وقد هاجر البعض منهم، لكنّ إفراغ لبنان من المسيحيين لن يحصل، مهما حاول المتطرّفون من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية. فالمطلوب من لبنان اليوم الصمود أمام هذه الموجات التفريغية، ومحاولة إعادة كلّ الذين هاجروا أو تشرّدوا أو ابتعدوا عن هذه المنطقة، لأنّ الشرق من دون مسيحيين كالوردة من دون رائحة. كذلك فإنّ التعصّب الديني في المنطقة يطال الطائفة الشيعية في لبنان وسواه من الدول، ويسعى الى إفراغها منها أيضاً، بهدف جعلها ذات لون واحد وطائفة واحدة، الأمر الذي من شأنه إلغاء لبنان كبلد نموذجي للعيش المشترك، وكبلد الرسالة. في الوقت الذي تسعى فيه بعض الدول الأوروبية الى تعميم هذا النموذج على دول المنطقة، لا سيما بعد كلّ التغييرات التي طرأت عليها بعد الربيع العربي الذي نشر فيها الفوضى بدلاً من أن تحلّ الديموقراطية، وأدّى الى عدم الاستقرار فيها رغم مرور السنوات على الثورات الشعبية وقلب الأنظمة.
من هنا، فإنّ دعم الإرهاب وشراء بعض دول المنطقة للنفط من التنظيمات وتشجيعها على الاستمرار في تهديداتها وتنفيذ مخططاتها لتدميرها هو الذي يُفاقم التطرّف الديني والطائفي، في حين أنّ المطلوب وقفه من منابعه، على ما يُطالب مجلس الأمن الدولي، لمحاربة المجموعات الإرهابية ليس بالوسائل العسكرية وبالعنف، إنّما بالسياسة والحلول السلمية. فالعنف جوبه بالعنف مرات عدّة في التاريخ القريب والبعيد، على ما أشارت الأوساط نفسها، لكنه لم يؤدّ الى إلغاء أحد. وعلى كلّ ليس هذا ما هو المطلوب في عصرنا الحالي، بل تعميم النموذج اللبناني، على ما تريد الدول الأوروبية.
فمن مصلحة الدول الغربية اليوم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، والدول الحليفة لها، أن تُشجّع على وقف تمويل الإرهاب، على ما شدّدت، وأن تقوم هي بهذا الأمر أولاً، إذا ما كانت تريد فعلاً منطقة يسودها السلام، بدلاً من الحروب والأزمات المتفاقمة على أسس دينية وطائفية وعرقية وإتنية بهدف تقسيم دولها. فالإرهاب الذي ضرب الغرب أولاً، لا بدّ وأن يرتد عليه في حال استمرّ مدعوماً بالمال وغيره.
ويحاول لبنان وسط الأزمات أن يحيّد نفسه عنها، لكي لا يطاله ما قد يصيب دول المنطقة من فدرلة وتقسيمات، لا سيما وأنّه رفض التقسيم رغم كلّ سنوات الحرب التي مرّت عليه، وأصرّ على البقاء نموذجاً فريداً للتعايس في المنطقة، على ما لفتت الأوساط نفسها، وهكذا سيبقى حتى وإن حاول المتطرّفون بشتّى الوسائل.