على مسافة أيام من ذكرى انطلاقة 14 آذار، يبدو واضحا انه لم يبق من هذه التجربة سوى أطلال وظلال، بعدما اعادت التحولات المحلية والاقليمية خلط التواريخ والتحالفات، لتولد اجسام سياسية جديدة، بعضها هجين وبعضها الآخر صلب، لكنها في كل الحالات تختلف عن «الطبعة الاصلية» من نموذجي 8 و 14 آذار.
ولعل المنسق السابق للامانة العامة «المنقرضة» لـ14 آذار النائب السابق فارس سعيد هو أفضل «شاهد عيان» على مسار هذا الفريق، والاكثر إحاطة والماما بما عانته تلك التجربة التي تكاد تكون قد تلاشت بعد مرور 12 عاما على ولادتها، في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
في هذا الحوار، يفسر سعيد على طريقته، ووفق اجتهاداته، اسباب احتضار هذه المغامرة التي كان من متصدري صفوفها، من دون ان يفقد الحافز للسعي الى استنهاضها مجددا.
ويقول سعيد لـ«الديار» ان الاطار التنظيمي ل 14 آذار انتهى ولم يعد موجودا، ولكن ليس هذا هو المهم، لافتا الانتباه الى ان الخطورة الكبرى تكمن في انهيار فكرة 14 آذار القائمة على الوحدة الاسلامية- المسيحية التي تحققت بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري عام 2005 وادت الى صناعة انجازات نوعية من بينها انسحاب الجيش السوري.
ويضيف سعيد بلهجة تتسرب منها المرارة: لقد تبعثر اللبنانيون من جديد، وعادوا الى التقوقع في المربعات الطائفية والمذهبية التي تفرز اجندات متضاربة، بحيث صار لكل من المسيحيين والسنة والدروز والشيعة اولويات متفاوتة.
ويتابع عارضا مكامن الخلل: يجب ان نعترف بأن فكرة العيش المشترك التي ارتكزت عليها 14 آذار تكاد تكون قد انتهت، بفعل الاستقطاب المذهبي الحاد على امتدادا المنطقة وصولا الى لبنان، «إذ ان هذا الاستقطاب دفع الطوائف للعودة الى جزرها، مفترضة انها تستطيع ان تجد فيها ضمانة، لا تؤمنها المساحة الوطنية المشتركة».
ويستنتج سعيد انه وبدل ان يتشبه «حزب الله» باللبنانيين، أصبحوا هم يتشبهون به، ملاحظا ان كل طائفة اصبحت مختزلة بحزب او اثنين وكل حزب بات مختزلا بقائد، وبالتالي بات الوطن مختصرا بمجموعة شخصيات تخوض حروبا باردة، تتخللها من وقت الى آخر، حرب ساخنة.
ويرى سعيد ان تداعي فكرة 14 آذار ليس ابن ساعته، بل هو نتاج مسار انحداري بدأ مع احداث 7 ايار 2008 التي انتجت واقعا سياسيا جديدا، كان من بين ابرز معالمه موقف وليد جنبلاط الذي رفع منذ ذلك الحين شعار «امن المجتمع الدرزي فوق كل اعتبار»، وبالتالي خرج بوزنه النوعي من 14 آذار بعدما كان رمزا اساسيا لحركتها ومشروعها.
ويلفت سعيد الانتباه الى ان مفاعيل 7 أيار معطوفة على مذهبة أحداث المنطقة، حوّلت الطائفة السنية كذلك من رافعة وطنية التفت حولها المكونات الاخرى عام 2005، الى طائفة تشبه الآخرين لجهة الاستغراق في الهموم الضيقة والتنافس الداخلي، مشيرا الى ان السنّة استحوذوا في لحظة تاريخية على الدور والموقع اللذين كانا للموارنة عام 1943، «لكنهم ما لبثوا ان تراجعوا الى المربع الاول، تحت وطأة الحمى المذهبية، في لبنان والاقليم».
ويعتبر سعيد ان الرئيس سعد الحريري ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع رضخا لموازين القوى في لحظة معينة، وتكيفا مع القرار الايراني بالاصرار على وصول عون الى رئاسة الجمهورية. ويتابع: لماذا اللف والدوران، علينا ان نعترف بأن معركة حلب هي التي اتت بعون الى قصر بعبدا، بمعزل عن محاولة هذا او ذاك في الداخل الترويج بأنه يملك اسهما في هذا الانتخاب ليحصل على مكاسب معينة.
ويعرب سعيد عن اعتقاده بأن الحريري وجعجع افترضا ان المنطقة ذاهبة الى «النهائيات» وتصرفا على هذا الاساس، بينما هي في حقيقة الامر ساحة رجراجة. ويستطرد مبتسما: لقد تمكن السيد حسن نصرالله من تسجيل هدف رئاسي في الوقت القاتل، ولو كان هناك خط دفاع متماسك لما سُجل الهدف في مرمانا.
ويوضح انه يأمل في ان يلتقي الحريري وجعجع بعد مدة لاجراء جردة حساب وتبيان نتائج قرارهما بانتخاب عون رئيسا للجمهورية، «وأنا سأسألهما متى التقينا: الى اين تعتقدان انكما اخذتما لبنان و14 آذار بفعل هذا الخيار؟»
ويلاحظ سعيد انه في كل موسم تطل علينا طائفة لتخبرنا بأنها ضحّت من أجل لبنان ويحق لها ان تحكم باسم هذه التضحيات، لافتا الانتباه الى ان الموارنة قالوا لنا انه لولاهم لكان ياسر عرفات قد صار «يكزدر» في جونيه ثم راح هذا المنطق يتدحرج حتى حلت الكارثة لاحقا بالمسيحيين، والآن تخبرنا الطائفة الشيعية انها تقاتل من مزارع شبعا الى العمق السوري دفاعا عن اللبنانيين وتريد ان تملك حق الفيتو وصلاحية الحل والربط باسم هذه المعركة وأخشى من ان ينتهي الامر الى كارثة اخرى…
ويؤكد سعيد انه مرشح الى الانتخابات النيابية المقبلة في مواجهة وصاية «حزب الله» على مقاعد جبيل، ايا تكن طبيعة قانون الانتخاب، مشيرا الى انه سيترشح بصفته مستقلا، ولا يخشى من الـ«تسونامي» المسيحي الذي سيتولد عن التحالف المحتمل بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، قائلا: المحادل اختبرناها في لبنان ولست قلقا منها، لكنني سأفترض ان «التيار» و«القوات» حصلا على 64 نائبا مسيحيا.. فان سؤالي لهما: ما أهمية تحسين الحصة المسيحية في دولة هي اسيرة خيارات اقليمية معروفة عكستها المواقف الاخيرة للرئيس ميشال عون؟ هل المطلوب ان نزيد الحصة النيابية ام ان نحرر الدولة من الأسر؟
ويشدد سعيد على ان الاولوية الاساسية بالنسبة اليه هي لفصل الجزء الاكبر من المسيحيين عن ايران واستعادتهم منها، بعدما اخذتهم خيارات عون اليها، من خلال حماسته لنظرية تحالف الاقليات ودفاعه عن مصالح طهران وسلاح «حزب الله». ويضيف: إذا كانت معركتنا قد تركزت في الماضي على فصل المسلمين عن الوصاية السورية فانها يجب ان تتمحور حاليا حول إبعاد المسيحيين عن المحور الايراني.
ويشير سعيد الى ان تحالف جعجع مع عون ينطلق من اسباب انتخابية وتكتيكية، مشددا على انه لا يمكن لجعجع ان يغطي خيارات عون الاستراتيجية، وهو سيعود حُكما الى ثوابته عندما يشعر بأن الامور وصلت الى «الزيح»، لأنه لا يساوم على استقلال لبنان وليس في صدد ان يقبل أخذ الطائفة المسيحية الى التموضع في خندق واحد مع طهران.
وينبه سعيد الى ان الشهر الحالي حافل بالاستحقاقات التي من أهمها التقرير الدوري في شأن القرار 1701، والقمة العربية المرتقبة في الاردن، لافتا الانتباه الى ان هذا الشهر حاسم لجهة تثبيت وجود لبنان في داخل الشرعيتين الدولية والعربية او استكمال خروجه منهما.
كما يحذر من ان التطورات الاقليمية والدولية ستضع لبنان في دائرة الخطر الشديد، «وعلينا ان نسعى الى تحييده عن تداعياتها».