عقدت محكمة العدل الدولية في لاهاي أولى جلساتها، والفضل الكبير في بلوغ منبر هذا المحفل القانوني المرموق يعود بالدرجة الأولى إلى جرأة الجوهرة السوداء المقاومة دولة جنوب إفريقيا، حيث أظهرت دموع الحزن الأممية تمرّداً واضحاً ولو بعد حين على إرادة النيوليبرالية الغاشمة التي تعتمد منذ عقود جمّة سياسةً توسّعية تسيرها قاعدة القضم والنهب والضمّ في نظام عالمي جديد فضولي وقح يحدّد للمواطن الكادح الفقير متى يعمل ومتى تفدحه البطالة ومتى يفرح ومتى يحزن ومتى يأكل رغيفه ومتى يتضوّر جوعاً برعاية اعتى شعارات التشاؤم والإنحطاط المعنوي الذي يقبع في النفوس البريئة. ويبدو أن الدخان الأبيض بدأ يتصاعد من مدخنة لاهاي القانونية الدولية، والرايات البيضاء بدأت تتوقف عن التلويح بها الأيدي التي ترتعش وكل ذلك في إطار هبوب عاصفة الإنتفاضة المجيدة من قبل جنوب افريقيا التي سبق أن استبعدتها سلاسل الأمبريالية وتكالبت عليها سكاكين الهمجية، وسرقت منها المكابح التي تدوسها أرجل الحرية وما الإمبريالية إلا الأم الحنون للصهيونية. ان الصحوة من أجل التغيير بدأت من جنوب إفريقيا، في الوقت الذي تشتغل فيه نيران الغضب على الكيان العبري في عواصم عالمية لم يعد يُستهان بأعدادها وكلها تطلب الحرية لفلسطين ، ويهتف حفيد نيلسون مانديلا من على سطح إحدى المباني الشاهقة التي جرت في شوارعها تظاهرات مليونية في جنوب إفريقيا شعارات تقول بتاريخ 12 كانون الثاني 2024، نعم لغزة نعم لفلسطين عاشت فلسطين عاشت حماس عاشت القدس، تحيا المقاومة الفلسطينية. لم يعد حرٌّ شريفٌ واحدٌ في العالم على استعداد للبقاء يغرد في سرب الفقر والجوع ومطامع الإستعباد وأن يبقى الحطب المشتعل لحماية نظام آحادي القطب وأن يكون الحارس والناطور لأسواره، ومكسراً لعصاته وقدماً لكرسيه وكيساً لملاكميه. وبصريح العبارة لا بدّ أن تعمّ الفرحة وتسود الغبطة وتنتشر البهجة عندما ندرك أن الجيش الصهيوني فقد زمام المبادرة بعد دخول الحرب شهرها الرابع، وخسر كل رهاناته على تحقيق الفوز الساحق وإلحاق أفدح الهزائم النكراء برجال المقاومة الفلسطينية الذين يرددون باستمرار يمّا ماويل الهوا يمّا هويّا، ضرب الخناجر ولا حكم النذل بيَّ، حتى أن جل الصحف الصهيونية تقريباً باتت تصارح الرأي العام بأن الكيان الصهيوني ما زال بعيداً جداً عن التتويج على منصة الإنتصار في شوارع وساحات غزة وهذا اعتراف فاضح بالهزيمة . كما ينبغي لفت عنايتكم إلى أن الخلافات بدأت تدبّ بين الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الحكومة الصهيوني بنيامين نتنياهو، إذ أن بايدن بدأ يستشعر خطورة المضي قدماً في الحرب لمزيد من الأشهر المقبلة لأنه يعلم أنّ لعبة عضّ الأصابع ركيزة طول مدة الحرب تميل لصالح رجال حماس وإن للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط والمنطقة العربية أولويات تبديها أميركا على ما عداها من أمور أخرى إلا أن لنتنياهو رأيه المعروف باستكمال تنفيذ خطته الإبادية التي لا يزال يعتبرها مُحكمة!، ما دفعه إلى الردّ قائلاً ، سأكمل الحرب حتى النهاية ولن يوقفني لا لاهاي ولا محور الشرّ حسب تعبيره، في الوقت الذي فجر فيه رفيق سلاحه السياسي والكاتب السياسي الإسرائيلي، آفن ليبكين قنبلة الموسم قائلاً أن حدود إسرائيل سوف تمتدّ من لبنان إلى السعودية وذلك بعد ضمّ مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة وجبل سيناء، وقال ليبكين في مقطع فيديو نشر على مواقع التواصل الاجتماعي اعتقد ان حدودنا ستمتد في نهاية المطاف من لبنان الى الصحراء الكبرى أي المملكة العربية السعودية ثم من البحر الابيض المتوسط الى الفرات ومن الجانب الآخر من الفرات سيكون الاكراد والاكراد اصدقاءنا. وأضاف إذن لدينا البحر المتوسط خلفنا والاكراد امامنا، ولبنان الذي يحتاج حقاً الى مظلة حماية اسرائيلية كما قال، اعتقد انه بعد ذلك سنأخذ مكة والمدينة وجبل سيناء وسنعمل على تطهير تلك الأماكن. وبهذا تتحقق أمنية من سفك وما زال يسفك الدماء البريئة الطاهرة برؤية دولة اسرائيل من الفرات الى النيل. نعم هذه هي الصهيونية، دملة سرطانية على وجه الأرض ينبغي على الشرفاء فقأها، وهي كتلة من الاضطرابات العقلية عمادها جنون العظمة وعصبها هذيان الاضطهاد وهي خليفة هولاكو وجانكيزخان وتيمورلنك وسيفوروس.
لقد اعتمد الفريق القانوني لجنوب افريقيا على انتهاك الاحتلال الاسرائيلي لإتفاقية الابادة الجماعية لعام 1948، التي تأسست في اعقاب المحرقة، وتنص على منع جميع الدول من تكرار مثل هذه الجرائم. وأشار المحامون الى أنّ ما جرى في غزة نكبة الإنسانية في فلسطين. وقالت المحامية التي تمثل جنوب افريقيا عادلة هاشم لمحكمة العدل الدولية ان اسرائيل انتهكت المادة الثانية من اتفاقية الابادة الجماعية والتي تضمّنت القتل الجماعي وأشارت الى ان اسرائيل نشرت، 6 آلاف قنبلة في الاسبوع ولم يسلّم منها أحد، وبالنسبة للأطفال وصف رؤساء الأمم المتحدة غزة بمقبرة الاطفال. وفي مقابلة خاصة، أكّد المتحدث بإسم الفريق القانوني لجنوب افريقيا زين دانغو أنهم سيقومون بصياغة مطلب متمثل في وقف اطلاق النار ووضع حدّ للهجمات. فضلاً عن ضرورة تدفق المساعدات الإنسانية الى القطاع. ويبدو انّ هذا هو المنطق السليم على أن لا تبقى مندرجاته حبراً على ورق. لقد ثبت انتصار غزة انتصاراً مظفراً مبيّناً. فمشهد أيقونات الصمود كان بانورامياً خلاباً ودفاع المقاومين ما زال أوبراليّاً يجعلك تشعر بأنّ الإصابات التي تلحق بالعدو هي من نتاج ضربات معلمين يعطون دروساً خصوصية في حروب الشوارع.
لقد أشاد زعيم حزب العمال البريطاني السابق جيرمي كوربن بالملف، ووصفه «بالمثير للإعجاب» لأنّ اعداده قد تم بعناية فائقة وتناول كوربن ما تنص عليه اتفاقية مناهضة التعذيب التي انتهكتها الحكومة والجيش الاسرائيلي، وذكر كوربن بأنّ نتنياهو وبعض السياسيين الدائرين في فلكه أوضحوا نيتهم طرد الفلسطينيين من ارضهم وقالوا أنه لا يوجد مدنيون أبرياء في قطاع غزة. لقد اعتبر الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي أنّ دفاع اسرائيل سيكون ضعيفاً جداً، لأنه سيلعب دور الضحيّة لناحية ما حدث يوم 7 تشرين الأول وجنوب افريقيا أكّدت أنه مهما كانت حدة الهجوم فهذا لا يمكن أن يقابل بإبادة جماعية. أما المحامي ومدير المركز الدولي للعدالة للفلسطينيين في لندن طيب علي فيرى أنّ ورقة الدفاع عن ا لنفس مفهوم مثير للإهتمام بموجب ميثاق الأمم المتحدة، ويندرج الدفاع عن النفس تحت المادة 51 التي تنص على أنّ الدولة تستخدمه لحماية نفسها من دولة عدوانية، لكن الوضع في غزة مختلف تماماً، لأنّ اسرائيل هي القوة المحتلة، وانّ الفلسطينيين هم الذين يدافعون عن أنفسهم.
يقول المثل انّ الضربة التي لا تميتك تقويك، فغزّة قاومت الموت بعد آلاف الضربات وليس ضربة واحدة، وكل ذلك بفضل سواعد أبطالنا المقاومين الذين جعلوا الغدر يعجز عن سحق حقهم المغتصب فلم يعرفوا وعكة أم كبوة، أو نكسة أو نكبة.
فلننشد مع نزار قباني مقطعاً من قصيدته الخالدة: يا تلاميذ غزة 1988:
علّمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا
علّمونا بأن نكون رجالا
علّمونا كيف الحجارة تغدو بين أيدي الأطفال ماساً ثميناً
وكيف تغدو دراجة الطفل لغماً وشريط الحرير يغدو كمينا
وكيف مصاصة الحليب إذا ما اعتقلوها تحوّلت سكين