لا يشعر بالمظلوم إلّا مَنْ عانى الظلم مثله، وهذا هو حال جنوب إفريقيا، التي عانت من التمييز العُنصري على مدى عُقود عدّة، إلى أنْ استطاع المناضل نيلسون مانديلا انتزاع الاستقلال والتحرّر من الاستعمارين البريطاني والفرنسي بعد نضال طويل.
مُنذ 1994، تُجرى انتخابات عامة في جنوب إفريقيا، وعلى مدى 6 دورات مُتتالية، فاز «حزب المُؤتمر الوطني الإفريقي» الحاكم بالرئاسة، بحصوله على أكثرية في البرلمان.
لكن في استحقاق الانتخابات العامة، التي من المُقرَّر أنْ تُجرى يوم غدٍ (الأربعاء) في 29 أيار/مايو الجاري، فإنّ الأمر لا يبدو سهلاً لفوز الحزب الحاكم بأكثرية، تُمكّنه من انتخاب مُرشَّحه رئيس الحزب والرئيس الحالي سيريل رامافوزا لولاية جديدة، بعدما أظهرت استطلاعات الرأي تراجع شعبية الحزب من 57% في الانتخابات السابقة التي جرت في العام 2019، إلى حوالى 40% – أي أقل من النصف، وهذا ما يستوجب تحالفات جديدة للحزب الحاكم بمُواجهة تحالفات المُعارضة!
في طليعة ما يتبادر إلى الأذهان، تداعيات تأثُّر الانتخابات بمواقف جنوب إفريقيا، خاصة برفعها قضيةً لدى «محكمة العدل الدولية» ضد الكيان الإسرائيلي بجرائم حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها في قطاع غزّة، والتي قدمتها بتاريخ 29 كانون الأول/ديسمبر 2023، وباشرت النظر فيها، بتاريخ 11 كانون الثاني/يناير 2024.
لقد تجرّأت جنوب إفريقيا على رفع القضية أمام أعلى هيئة قضائية في العالم، وأجبرت المُحتل الإسرائيلي على المُثول أمامها، كمُدّعىً عليه، في سابقة تحدّث للمرّة الأولى مُنذ إنشائه قبل 76 عاماً.
تكمن أهمية القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا، بأنّه لا تُوجد بينها وبين الأراضي الفلسطينية المُحتلّة من قِبل الاحتلال الإسرائيلي حُدود، أو مصالح مُشتركة، أو نزاعات مُباشرة، لذلك جاءت قُوّة القضية، التي انضمّت إليها لاحقاً دول أخرى.
مُحاكمة الاحتلال تعني أنّها ستُستتبع بإدانة الشركات التي زوّدته بأسلحة القتل والدمار، وهي من صناعة أميركية، وبدعم مالي رسمي بمُوافقة الكونغرس، ما يُدين الولايات المُتّحدة على ذلك!
لهذا، فإنّ الكيان الإسرائيلي والولايات المُتّحدة الأميركية لن يقفا مكتوفي الأيدي، حيث حاولا الترغيب والترهيب لثني جنوب إفريقيا عن رفع القضية، لكن ذلك كلّه لم يُبدّل في موقفها بالإصرار على استمرار المُحاكمة.
لقد اختارت جنوب إفريقيا مُناصرة المظلوم على المِنَح والهِبَات والمُساعدات المالية، واستغلال الظُّروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي تُعاني منها.
لذلك يعمل الكيان الإسرائيلي والولايات المُتّحدة الأميركية على دعم المُعارضة مادياً وسياسياً لضمان فوزها بأكبر عدد مُمكن من الأصوات في الانتخابات العامة، للسيطرة على البرلمان، وتأييد مُرشّح للرئاسة.
يُشارك في الانتخابات التي تُجرى للمرّة السابعة مُنذ العام 1994، بعد سُقوط نظام الفصل العُنصري، 27 مليون ناخب، ليختاروا أعضاء الجمعية الوطنية، الذين يُنتخبون بدورهم رئيساً للدولة، بما يعني تشكيل سُلطة تشريعية وانتخاب السُّلطة العُليا.
تمتاز هذه الانتخابات للمرّة الأولى عن سابقاتها، السماح بمُشاركة مُرشّحين مُستقلّين، من خلال استخدام 3 بطاقات اقتراع مُنفصلة:
1- تضم 52 حزباً سياسياً، تتنافس على 200 مقعد في الجمعية الوطنية.
2- اختيار الأحزاب السياسية والمُرشّحين المُستقلّين المُتنافسين على 200 مقعد مُخصَّصْ للمُقاطعات في الجمعية الوطنية.
3- لاختيار برلمانات المُقاطعات.
وباختيار الناخبين لحزب سياسي من خلال الصناديق، تُحدَّد نسبة الأصوات التي يحصل عليها عدد مقاعده في الجمعية الوطنية، فمَنْ ينال أكثر من 50% من المقاعد يُمكنه إيصال مُرشّحه إلى الرئاسة.
في الانتخابات السابقة استطاع «حزب المُؤتمر الوطني» أنْ يُسيطر على غالبية المقاعد البرلمانية وانتخاب رئيسٍ، حيث حصل فيها على 57% من أصوات المُقترعين، بينما تُعطيه استطلاعات الانتخابات المُقبلة 40%.
وتمكّن مُمثّل «حزب المُؤتمر»، الذي قاد البلاد لإسقاط حُكم الفصل العُنصري كحركة تحرّر بقيادة مانديلا، أنْ يفوز برئاسة الجُمهورية خلال السنوات الماضية، لكن لا يُمكنه الفوز بالرئاسة المُقبلة، كحزب مُنفرد، ما يُحتّم عليه التحالف مع أحزاب أخرى لتأمين أكثر من نصف الأصوات.
هناك أسباب عدّة أدّت إلى تراجع تأييد «حزب المُؤتمر الوطني الإفريقي» ودعمه للقضايا الوطنية ومُناصرة المظلومين، وفي مُقدّمها قضية فلسطين وغيرها من القضايا العادلة، استغلها المُعارضون، خاصة مَنْ يتلقّون دعماً من الكيان الإسرائيلي والولايات المُتّحدة الأميركية.
هذا فضلاً عن اتهام مسؤولين في «حزب المُؤتمر الوطني» بعدم مُكافحتهم للفساد!
وتمكّنت أحزاب المُعارضة، البالغ عددها 11، من التوصل إلى توقيع اتفاق في ما بينها خلال الصيف الماضي، للتحالف في وجه «حزب المُؤتمر الوطني».
لكن نتائج هذه الانتخابات لا تعني أنّ «حزب المُؤتمر الوطني» سيكون خارج دائرة التأثير، فبإمكانه إجراء تحالفات حيث من «السيناريوهات» المُتوقّعة أنْ يعقد تحالفات مع:
– «حزب رمح الأمة» المدعوم من الرئيس السابق لـ»حزب المُؤتمر» جاكوب زوما، الذي استطاع استقطاب 8.4% من الناخبين المُسجّلين، رغم أنّ تشكيله تمَّ خلال شهر كانون الأول/ديسمبر 2023.
لكنه يحتاج إلى تجاوز اتهامات التزوير التي يُواجهها بعد فتح مُفوّض الشرطة فاني ماسيمولا تحقيقاً بتهمة تزوير تواقيع لتأمين مكانٍ في قائمة الاقتراع المُقدَّمة إلى مُفوضية الانتخابات في جنوب إفريقيا.
– «مُقاتلي الحرية الاقتصادية» بزعامة جوليوس ماليما (ثالث الأحزاب المُعارضة) بأفكاره اليسارية الشيوعية.
– «التحالف الديمُقراطي» بزعامة جون ستينهاوزن.
لا شكَّ في أنّ الانتخابات العامة في جنوب إفريقيا هذه المرّة، تتميّز عن الاستحقاقات السابقة، حيث يُنظر إلى أهميتها بأنْ يبقى «حزب المُؤتمر الوطني» بقيادة البلاد.
هكذا هي ضريبة مُناصرة فلسطين، دولٌ حُرّة تدعم وتتحمّل أعباء ذلك.. ومُتظاهرون في الشوارع والجامعات يُناصرون فلسطين ويتعرّضون للاعتداء والفصل والطرد.
لكن ذلك لم يحل دون استمرارهم بالنضال من أجل قضية الحق، بفعل وضوح حقيقة الرواية الفلسطينية بمُواجهة زيف ادعاءات الاحتلال، رغم مضي 76 عاماً على نكبة العام 1948، وما يتعرّض له الشعب الفلسطيني من مجازر وحرب إبادة، إلا أنّه ما زال يُناضل من أجل الحرية والتحرير والعودة.