Site icon IMLebanon

الجنوب والحنين إلى الدولة

 

الأخطر في كل مأساة، هو إصرار بعض ضحاياها، على تأكيدها كحتمية تاريخية متلازمة مع كل الأجيال، ومن ثم عشقها لتصبح كمتلازمة «أمستردام»، لتبريرها والتسويق لها، بدل البحث عن أسبابها ومعالجة هذه الأسباب للتخلص من «حتميتها»، وإنقاذ ضحاياها من هكذا اعتقاد واهم بغيض. فالمأساة التي يعيشها الجنوب منذ خمسة عقود ونيف، يعتبرها البعض حتمية تاريخية تلازمت مع وجود إسرائيل على حدودنا، منذ سبعة عقود ونيف؛ بينما تؤكد الوقائع التاريخية، أنّ مأساة الجنوب بدأت عام 1969، عندما تراجع دور الدولة وجيشها عن أرضه، لصالح المنظمات المسلحة غير الشرعية.

 

خلال حرب 1948 بين لبنان وإسرائيل، حصل تبادل مجزرتين بين الجانبين: الأولى وقعت في قرية المالكية بتاريخ 15 إيار 1948، وقُتِل فيها 92 يهوديّاً حسب المصادر اللبنانية؛ بينما وقعت الثانية في قرية حولا اللبنانية في 30 تشرين الأول من نفس العام وقُتِل فيها ما بين 35 و50 لبنانياً. انتهت الحرب بإعلان الهدنة عام 1949، والإكتفاء بتمركز 1500 جندي فقط على كلٍّ من جانبي الحدود.

 

بعد انتهاء تلك الحرب، لم تحصل أحداث عسكرية أو أمنية أو مجازر على جانبي الحدود بين تاريخ توقيع الهدنة عام 1949 وعام 1969 (العام الذي دخلت فيه المنظمات الفلسطينية المسلحة إلى أرض الجنوب)، كما يروي لنا العسكريون الذين سبقونا إلى الخدمة على الحدود الجنوبية خلال تلك المرحلة تطبيقاً لاتفاق الهدنة؛ باستثناء بعض التجاوزات الإدارية من عبور المهربين أو الرعاة أو المواشي الشاردة… للحدود، والتي كان يتولى معالجاتها مراقبو الأمم المتحدة ليعيدوا الأمور إلى نصابها.

 

بعد دخول المنظمات الفلسطينية المسلحة إلى أرض الجنوب، شاءت الظروف أن أتولى قيادة معتصم بلدة مارون الراس، وهو الأقرب إلى الحدود والأكثر إشرافاً في القطاع الأوسط على الأرض المحتلة. تعرفت فيها على أهالي تلك البلدة الطيبين، وكيف لي أن أنسى حماسة بعض شبابها من عائلات علوية، فارس… وغيرها، الذين هرعوا إلى المعتصم، واضعين أنفسهم بتصرفي للقتال، عندما حصلت معموديتي الأولى بالنار مع العدو في مارون الراس. فتحية كبرى لهؤلاء الأنقياء. دخلت يوماً إلى مدرسة البلدة، ولاحظت أنّ بعض مقاعد الدراسة تحمل عبارات باللغة العبرية (وكنت لا أزال ملماً بالعبرية التي تلقنتها في الكلية الحربية)، فسألت مستغرباً: من أين لكم هذه المقاعد؟ فأجابني أحدهم مبتسماً: من بلدة أفيفيم الإسرائيلية الواقعة على الحدود مقابل مارون الراس؛ فأردفت قائلاً: أنتم تدخلون إلى هناك؟ فأجابني أحدهم: لم يكن هناك من صعوبات قبل وصول المسلحين إلى المنطقة.

 

طيلة مرحلة وجودي في مارون الراس، وكنت المراقب الأمامي والأساسي الذي يرصد تحركات العدو لصالح القطاع الأوسط، كانت العمليات العسكرية الإسرائيلية تقتصر على الردّ على العمليات التي تقوم بها المنظمات الفلسطينية المسلحة؛ الردود الإسرائيلية كانت تتسبب بالأضرار لبعض الأرزاق للمواطنين الجنوبيين، وكانت الدولة اللبنانية تتولى التعويض على أصحابها.

 

عندما تتلاعب الممانعة بالحقائق التاريخية عن الجنوب، ووصفه كحتمية تاريخية للمأساة، فهي إنما تهدف من وراء ذلك، إلى حشد الرأي العام وراء مشروعها الذي لا يمتّ إلى مصلحة الجنوبيين أو لبنانهم بصلة. وعندما تُصِرُّ على تكرار القول إنّ مأساة الجنوب واقعة حتماً، حتى في ظلِّ الدولة التي لا يمكنها الدفاع عنه، وإنّ سلاح المقاومة هو وحده القادر على تأمين الحماية له، بينما الوقائع التاريخية تثبت عكس ذلك، فهي تهدف من وراء ذلك إلى تبرير السلاح لخدمة مشروع آخر، لا مصلحة للجنوبيين أو اللبنانيين به.

 

ببساطة وعلى مرأى من الجميع يمكن سؤال هؤلاء الممانعين: هل دخل الجيش الإسرائيلي إلى الجنوب قبل عام 1969 أي مع وصول المسلحين الفلسطينيين وتراجع الدور الأمني للدولة فيه لصالح تلك المنظمات عامي 1978 و1982؟ وهل تهدّمت منازل الجنوبيين وتدمرت أرزاقهم، أو قُتِلَ أبناؤهم أو نزحوا بمئات الآلاف عن ديارهم كما هو حاصل اليوم وقبله، قبل أن تُطرد الدولة من أرض الجنوب؟ وهل حصل أيٌّ من هذه المآسي، أو أي اعتداء سافر على أرضه بين عامي 49 و69 عندما كانت الدولة وحدها مسؤولة عن أمنه واستقراره؟

 

التعبئة التي تحشد فيها الممانعة على أساس تغيير الحقائق عمرها قصير. والنتيجة هو ما يحصل اليوم، مع الأسف، من مآس للجنوبيين. فلا يمكن إنقاذ الجنوب ومعه لبنان كله إلاّ بـ»قول الحقيقة مهما كانت قاسية ومرّة». لن يحمي الجنوب ولبنان إلّا الدولة؛ فتحية إلى الجنوب وأهله الصابرين التواقين إلى عودة الدولة والإستقرار.