حين كنتُ أراقب حدود الجنوب اللبناني خلال الحرب على غزّة، كان يلفتني الإعلام العسكري الإسرائيلي الذي كان يقول بإبعاد المستوطنين من الشمال أكثر من سبعة كيلومترات داخل مستوطناتهم المتاخمة للبنان، وكان يلفتني أكثر أن وجود الجيش الإسرائيلي كان شبه معدوم بالصّورة أو بالمَشَاهد كمن يدّعي الموت فلا يتحرك لغاية في نفسِه، وبالكاد كان يمكن أن تحظى بدبابة إذا شغّلتَ منظاراً. وكنتُ أسأل نفسي لماذا هذا الهدوء المبالغ فيه، الذي يوحي لمن يتربّص، بأن «احتلال الشمال» (كما كان يقول السيد حسن نصرالله) قد حان، والظروف مؤاتية، وجيش إسرائيل يعاني مع غزّة ولن يستطيع الصمود على جبهتين مشتعلَتين، وكان هذا الشعور هو الأغلب، وهذه الفكرة التحررية هي الأكثر مداعبة للعقول عند المقاوَمة وقياداتها حتى جاء خطاب السيد نصرالله الذي ذهَب في اتجاه آخر تماما، وفيه تصرَّف تصرُّف العارف المتابع الدقيق المسؤول أصلاً وفصلاً عن الموضوع.
الوقت حلّال المشاكل. فبعد مرور وقت كافٍ على عملية غلاف غزّة، ومحاولة اجتياح غزّة نفسِها، راحت ضربات الجيش الإسرائيلي المدروسة والعمياء معاً على الجنوب تكشف أفضَح عملية استدراجٍ للمقاوَمة سهّلَت لها إسرائيل أدواتها كإظهار التراخي الأمني والعسكري والإجتماعي في المستوطنات ومحيطها، في الوقت الذي كان خبراء المقاوَمة يتدارَسون الأمر ويرصدون الأرض ومعاني خطوات وتكتيكات إسرائيل ويرسمون علامات استفهام حولها هل هي انقطاع إسرائيلي إجباري عن الجبهة ارتباطاً بجبهة غزة، أم أنها لعبة إسرائيلية تريد أن تزيّن إعلان حزب الله الحرب على إسرائيل و«احتلال» الجليل (الذي هو فكرة سابقة للحزب انطلقت منها عملية غلاف غزّة)…!
اليوم، هناك إضافة في تزيين «الدخول» الى الجليل، فقد عمد جيش الإحتلال إلى فتح ثُغَر في الجدار العالي الذي رفَعَه على طول الحدود مع لبنان بشكل قد يغري الحزب أو بالحد الأدنى الفصائل الفلسطينية التي نشطت لفترة في الجنوب قبل أن يُعاد العمل على ضبطها وضبضبَتِها لصالح اليد العليا التي لحزب الله في هذا المجال!
الواضح اليوم إن هناك حذراً شديداً في التعامُل مع نشاط الجيش الإسرائيلي، فالضربة بضربة وقتل المدنيين بقتل المدنيين، والحفاظ على قواعد الاشتباك يبدو ساريا، إلّا حين تقرّر إسرائيل أن الحزب لن يعطيها العُذر الذي كانت تتمناه من حزب الله (كإعلان الحرب من طرف واحد كما كان متهوّرون أو مأجورون ماديا، يطلبون) وعندها ستأتي إلينا وقد استجمعت لا قوة إسرائيل أرضاً وسماءً فحسب فهي تجتمع بسرعة، بل ليأتي الغرب بأساطيله وبوارجه (ومعهم العرب!) للدفاع عن إسرائيل المعرّضة للإبادة وذاك بالخلاص من حزب الله أو الشيعة، وكذلك من لبنان على بعضه الذي لم يعرف كيف يتخلّص من المقاومة وبيئتها الحاضنة!
يسيطر هذا الشعور اليوم على أغلب أوساط بيئة المقاوَمة ويعتبرون أن انكفاء السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير خطوةً إلى الوراء كان في مكانه تماماً، ودفَعَهُم إلى التفكّر في المجريات أعمق، وأن التسلّح والتخندق والاستعداد ينبغي أن تتمّ استعداداً للجبهة الجنوبية اللبنانية التي قد يقرّر العدوّ في أي لحظة فتحها مستنداً إلى السجال المريض الذي دار في الأوساط اللبنانية حول مَن يتقبّل النازحين من الجنوب ومن يرفضهُم وقد بلَغ مستوى خطيراً يدل على هشاشة الإيمان الوطني العام، وفراغ الطوائف من الحسّ الجماعي مع الطوائف الأخرى، فضلاً عن سبب أخر كبير جداً لم يُطرح على المنصة المناسبة تماما داخل لبنان هو: ماذا سيفعل النازحون السوريون «المقاتلون» الذين يكرهون بأغلبهم المقاومة، وهل سيحملون السلاح ليقاتلوا المقاومة من خلفها مع الجيش الإسرائيلي، وكيف سيتم ذلك، بفوضى تملأ البلد أم بتنظيم قد تُعلَن ولادته فوراً بعدما جرت الترتيبات له؟
الآن لا حراكَ على الحدود خارج المألوف. قَتلُ الأطفال والنساء عمَلٌ روتيني إسرائيلي موجِع، والرد عليه هو بالقسط نفسه حتى لا تحضر «الذريعة اليهودية» المغطاة عالَمياً بالدفاع عن النفس. أمّا إذا كانت إسرائيل تريد هذه الحرب، قبل غزّة أو بعدَها، فهو ذاته حلم ابليس في الجنة، فلا هنا سيكون انتصار لدولة الكراهية المطلَقة، ولا هناك. ورِباط الخيل الذي أُعدّ لإرهاب عدوّ الله وعدوّ الناس سيظهر على امتداد الدول التي تعيش المخاض!
وفي معلومة تتردّد في بعض المجالس اللصيقة بالمقاومة من جميع الأحزاب الوطنية، وعُقدَت لقاءات بشأن مضمونها، يُحكَى عن اجتماعات لبنانية منذ شهر تقريباً تدرس احتمالات حرب إسرائيلية وعالمية ضخمة على لبنان، وضرورة أن تكون قوى حزبية مسلّحة على جهوزية للإمساك بالأرض من أرباب الفتن النازحة وغيرها لحماية ظهر الوطن.
على أبواب أيام صعبة، لا آمال بالمَرّة معقودة على القمة المقبلة، وإذا حصل وقف إطلاق النار في غزّة سيكون لغاية في نفس الأميركي. يجب أن يَشفَى جرح الكبرياء العسكري الإسرائيلي الذي ضُرب بحذاء المقاومين.. ولكن كيف؟