IMLebanon

الجنوب بين الدولة والدويلات… وماذا بعد؟

 

ما يحصل اليوم في جنوبي لبنان، من سقوط ضحايا مجّاناً، ونزوحٍ أمني وإقتصادي لمئات آلاف المواطنين، وتدميرٍ لعشرات آلاف البيوت… يدفع ثمنه اللبنانيون جميعاً، شباباً ومالاً واقتصاداً وإلغاءً لوطنٍ كان منارةً وجامعةً ومستشفى ومدرسةً ومصرفاً… وملاذاً آمناً لكل المضطهدين في هذا الشرق. ما يحصل اليوم في جنوبي لبنان يدعو إلى إجراء مقارنة وجردة حساب تاريخية لهذا الجزء العزيز من أرض لبنان. والسؤال عن المستقبل: وماذا بعد؟

 

 

بعد تأسيس دولة إسرائيل، مر جنوب لبنان بثلاث مراحل:

– المرحلة الأولى: مرحلة الدولة اللبنانية بين عامي 1949 و1967.

– المرحلة الثانية: مرحلة «الدويلة» الفلسطينية بين عاميّ 1967 و1982.

– المرحلة الثالثة: مرحلة «الدويلة» الإيرانية منذ عام 1982 حتى اليوم.

 

المرحلة الأولى، مرحلة الدولة اللبنانية: بعد انتهاء الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى بعقد اتفاق هدنة مع لبنان عام 1949، والتي اشترك فيها الجيش اللبناني بحيث سقط له فيها شهداء ضباط وعسكريون، شهد الجنوب استقراراً وأماناً أكثر من عديدٍ من المناطق الداخلية في لبنان، وحتى الحدودية منها التي تعرّضت للإنتهاك بسبب ثورة 1958.

 

المرحلة الثانية، مرحلة «الدويلة» الفلسطينية: كانت «جريمة» لبنان الكبرى عام 1967 أنه لم يشترك في حربٍ متوقعة النتائج بحيث يُقدِّم فيها الجنوب «هدية» للعدو. فعوقب بتكريس جنوبه من بعض أشقائه العاجزين والحاقدين، ساحةً لتنفيس عجز هؤلاء «الأشقاء»، ومرتعاً لـ»الفدائيين» الفلسطينيين الذين استظلوا هذه العبارة واستباحوا، ومع الأسف بمباركة المواطنين الجنوبيين، كل شيءٍ على حساب الدولة وجيشها الذي كان يعمل بين شاقوفين: العدو من الأمام و»الفدائيون» من الوراء. حاولت الدولة خلالها وضعَ حدٍّ للفوضى التي تسبب بها هؤلاء «الفدائيون» فوق أرض الجنوب، فسقط للجيش عشرات الشهداء العسكريين من ضباطٍ ورتباءٍ وأفراد بنفس الوقت في مواجهات مع العدو ومع الفلسطينيين، اضطر بعدها الجيش إلى الإنسحاب مخلِّفاً وراءه أرضاً جنوبية، فقدت هويتها الوطنية بعدما سيطرت عليها منظمة التحرير الفلسطينية، وأصبحت ساحة سائبة بين دولة إسرائيل ومنظمة تفتقد إلى شرعية وطنية ودولية. دفع الجنوب ومعه لبنان أثماناً باهظة ، انتهت باجتياحه من قبل الجيش الإسرائيلي عام 1982، وصولاً إلى العاصمة بيروت، بعدما استُقبِل بالورود من قبل المواطنين الجنوبيين؛ ليس حُبّاً بالمحتل الجديد إنما كرهاً بالممارسات الفلسطينية التي تسببت بسقوط ضحايا عديدة من المواطنين الأبرياء وتدمير بيوتهم وأرزاقهم. بالنتيجة قدَّم الرئيس ياسر عرفات لاحقاً اعتذاره إلى اللبنانيين عن تلك المرحلة

 

المرحلة الثالثة، مرحلة «الدويلة» الإيرانية: انقسمت هذه المرحلة إلى زمنين: زمن التحرير، أي قبل عام 2000 والذي دفع ثمنه لبنان غالياً من شبابه واقتصاده، مع أنه كان بالإمكان إنجازه بأثمانٍ أقلّ، لو كان الجنوب تحت سيطرة الدولة. وزمن «الفرسنة» النقيَّة الذي تعيشه منطقة الجنوب منذ عام 2000، خاصة بعد انسحاب الجيش السوري الذي كان شريكاً لإيران في مصادرة القرار اللبناني.

 

أغاظ الإنسحاب المفاجئ للجيش الإسرائيلي من الشريط الحدودي، النظام السوري والدولة اللبنانية التي تدور في فلكه؛ فأقدم القيمون في الدولة على تزوير خريطة لبنان، بنقل حدوده جنوباً لتبقى مزارع شبعا ذريعةً لاستمرار الإحتلال السوري، الذي كان يستمد «شرعية» وجوده في لبنان من وجود محتلٍّ إسرائيلي لجزء من الأرض اللبنانية الجنوبية. وهكذا نفخت مزارع شبعا «الروح» من جديد لدى النظام السوري ليستمر في السطو على القرار اللبناني، واغتبط «حزب الله» بـ»مسمار جحا» للإحتفاظ بسلاحه، وظهرت مرحلة «الفرسنة» الخالصة في لبنان كله خاصة فوق أرض الجنوب.

ظنَّ اللبنانيون بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي، أنهم ذاهبون إلى استعادة جنوبهم ليعود جزءاً من الدولة. لكنهم راحوا يترحمون عام 2006 على النكبات السابقة؛ عندما شهِد الجنوب عمليات نزوح لمئات الآلاف من أبنائه، وتدمير قسمٍ كبيرٍ من عاصمته ومن بُنى لبنان التحتية وصولاً شمالاً إلى أقاصي عكار.

أسئلة إلى «الحزب»

اللبنانيون لايعلمون لماذا استَدرج «حزب الله» العدو إلى حرب 2006 التدميرية خلافاً لإرادتهم فكان الدمار شاملاً في كل لبنان. واليوم يستدرج «حزب الله» العدو إلى حرب جديدة مدمرة، بعدما أعلم اللبنانيين هذه المرة بأنها دعماً لغزه. لذلك لا بد من توجيه بعض الأسئلة إلى «الحزب»:

 

 

1 – لماذا على لبنان وحده أن يدعم غزه وبهذه الطريقة؟ أوليس لغزه مناصرون في الضفة الغربية من فلسطين؟ وأوليس لغزه مواطنون فلسطينيون في إسرائيل 1948؟ وأوليس لغزه داعمون ومساندون في العالمين العربي والإسلامي؟ وأخيراً لا آخراً، أوليس لغزه رعاة في طهران؟ أم أن الرعاة يكتفون بتقديمها حطباً لإنعاش مصالحهم؟ وكل ذلك على حساب غزه ولبنان.

 

2 – لماذا يدفع لبنان هذه الأثمان؟ وهل استفادت غزه من دعم لبنان لحربها كما يحصل في الجنوب؟ طبعاً لا، لأن «المستفيد» الوحيد من حرب غزه، إذا بقي شيء للإستفادة منه، هو المفاوض الإيراني.

 

3 – هل هناك أفقٌ معروف لهذه الحرب، المقتصرة حاليّاً على الجنوب، في فكر الذين تسببوا بها، سوى مظلاتٍ بألوانٍ عديدة: تحرير فلسطين، أو استعادة القدس، أو الصلاة في المسجد الأقصى، أو إنقاذ كنيسة المهد…. بينما بعض الفلسطينيين أصحاب الأرض، يجالسون الإسرائيليين في الضفة الغربية، والبعض الآخر من الفلسطينيين ينتخب نواباً عرباً فلسطينيين في الكنيست الإسرائيلي الذي يدير الحرب اليوم على غزه. لذلك فكل ما يتذرَّع به الحزب لتبرير حروبه ليس صحيحاً؛ إنما هي أغلفة لأهداف مخفيّة لبنانية داخلية تناقلتها بعض وسائل الإعلام وتسرَّب بعضها عبر بعض القنوات الدبلوماسية.

 

الأحجية الواهية

وعندما تُستهلك كلُّ هذه المظلات فوق أرض فلسطين كذرائع لتبرير سلاح «الدويلة» يستحضر «الحزب» جعبته المليئة بالأحجية اللبنانية الواهية. المزاعم اللبنانية هي غب الطلب عند «حزب الله» لتبرير السلاح. فمزارع شبعا ليست قانونية بالمعنى الدولي القانوني على الأقل. وأهل بلدة الغجر هم الذين فرشوا الأرض بأجسادهم أمام الدبابات الإسرائيلية لمنع انسحاب جيشها من بلدتهم، مفضِّلين العيش في ظلِّ دولة إسرائيل على العيش في ظلِّ الدويلة. والخلاف على عشرات الأمتار على الحدود البريّة بين الجانبين، يمكن حلُّه بالتفاوض؛ علماً أن هذه الأمتار قد لاتستأهل الوصول إلى انتحار اللبنانيين ودولتهم. والقرى الشيعية السبع، آخر الذرائع الظاهرة حتى الآن في سياسة غب الطلب، لتبرير السلاح هي في الحقيقة 25 قرية (12 سنيّة، 7 شيعية، 2 مارونية، 2 كاثوليكية و2 يهودية)، لا معنى لإثارتها في القانون الدولي؛ الذي يعترف بالحدود بين الدول على أساس الجغرافيا، وليس على أساس أديان سكان هذه القرى.

تحت عنوان «على طريق القدس دعماً لغزه» ، أدخل «حزب الله» لبنان في حربٍ شاملة مع العدو. والحروب الشاملة، كما أثبت التاريخ، لا تنتهي إلاّ «بقاتلٍ ومقتول»، كما حصل مع اليابان وألمانيا وإيطاليا… في الحرب العالمية الثانية، وكما هي الحرب اليوم مع حماس في غزه.

فإسرائيل، التي اعتادت على الحروب النظامية الخاطفة، لن تقبل بعد اليوم، كما يبدو، بحروب إستنزاف؛ لا في جنوبها مع غزه ولا في شمالها مع جنوب لبنان. فتصريحات قادتها، والأقلهم تشدداً كما يبدو اليوم هو نتنياهو، تشي بأنها ذاهبة إلى وضعِ حدٍّ نهائي لحروب الإستنزاف هذه، التي تناسب أعداءها في غزه وجنوب لبنان. فهل «يعلم» حزب الله هذه المرة الخطورة التي يجرُّ إليها لبنان؟ أم أنه عالم بها ومستعد لدفع الأثمان للعدو، على البارد، لقاء مشروع يضمره، مشروع غامض ومستحيل يحلم بإقامته فوق الأرض اللبنانية؟

هذا هو الجنوب باختصار بعد خمسة وسبعين عاماً على وجود الدولة اللبنانية، التي أمّنت له الإستقرار والأمان، كبقية كل مناطق لبنان، عندما كان جزءاً من هذه الدولة؛ بينما عاش التدمير والتهجير في «الدويلة» الفلسطينية؛ وها هو اليوم يحاول تكرير المأساة، بأضعافٍ مضاعفة، في ظلِّ «الدويلة» الإيرانية. ويبقى أمام الجنوبيين السؤال: «وماذا بعد هذه الحرب التدميرية هل نرمم ما تصدَّع من بيوت ونبني بدل ما تهدَّم، أم ننتظر حرباً أخرى تطيح بما تبقّى؟؟».