من فيليب حبيب إلى آموس هوكشتاين
ليس من الوارد أن يقبل «حزب الله» بإخلاء منطقة جنوب الليطاني من السلاح والمسلّحين. ما يحصل منذ 8 تشرين الأول الماضي يسير عكس هذا الإحتمال، لأنّ «الحزب» زاد من ترسانته العسكرية وفتح الباب أمام مشاركة فصائل أخرى فلسطينية ولبنانية للقيام بعمليات عسكرية واجتياز الحدود وإطلاق الصواريخ. ومع ذلك لا تزال إسرائيل تطرح كمخرج لتجنّب الحرب إقامة منطقة عازلة على طول حدودها مع لبنان تمتدّ حتى نهر الليطاني.
منذ قيام دولة إسرائيل في العام 1948 شكّل مجرى نهر الليطاني ما يمكن تسميته الحدود النظرية الأمنية البديلة عن الحدود الجغرافية التي رُسِمَت بين لبنان وفلسطين منذ العام 1920 أيام الإنتداب الفرنسي على لبنان، والبريطاني على فلسطين. لم يكن ترسيماً بين الدولتين اللتين لم تكونا قد ولدتا واستقلّتا بعد، بل بين دولتين اتفقتا على تقسيم المنطقة وعلى تسهيل قيام دولة إسرائيل بموجب وعد بلفور البريطاني. اليوم وبعد مئة عام يعود الطرح إلى بداياته مع تسريب ما يحكى عن طرح تقبل به إسرائيل يقوم على نشر قوات فرنسية في لبنان، وأميركية داخل إسرائيل، وضمان سحب «حزب الله» من جنوب الليطاني، وتعهّد إسرائيل بعدم القيام بأيّ اعتداء على لبنان، وكأنّنا أمام عودة للإنتداب بغير تسمية وبغير مهمّة من أجل ضمان التسوية شبه المستحيلة بين إسرائيل و»حزب الله».
عملية الليطاني الأولى
دائماً وضعت إسرائيل حدود مجرى نهر الليطاني في أولويات الحفاظ على أمنها، ولكن منذ العام 1948 أثبتت هذه النظرية فشلها بحيث أنّ هذا الفاصل الجغرافي لم يؤدِّ في أيّ مرحلة الغاية المطلوبة منه. فهذا الخط كان موضع بحث جدي قبل ترسيم حدود لبنان النهائية حيث كان من المطروح أن تكون حدود لبنان عند حدود النهر. ولكن تمسّك البطريرك الياس الحويّك بالحدود الجغرافية التي رسمتها الحملة العسكرية الفرنسية في العام 1861، وقت قيام نظام المتصرفية، أدّى إلى توسيع هذه الحدود إلى ما هي عليه اليوم. كان ذلك قبل أن تكون دولة إسرائيل. وبعد قيام هذه الدولة لم يتوقّف الحديث عن أطماعها في لبنان، وعن رغبتها في أن تتوسّع حدودها إلى الليطاني طمعاً بالمياه.
ولكن في الواقع لم تعمد إسرائيل إلى تغيير الواقع الجغرافي ولم تحتلّ أراضيَ لبنانية في كل الحروب التي خاضتها، وخصوصاً عام 1967 عندما احتلّت الجولان في سوريا، وسيناء في مصر، وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس في فلسطين. ولكن بعد العام 1969 وبدء العمليات الفلسطينية من لبنان تغيّرت المعادلة. عادت نظرية الأمن الإسرائيلي لتطغى على مسألة الحدود خصوصاً بعد اندلاع الحرب في لبنان عام 1975 وانتشار الفلسطينيين على طول الحدود.
الخط الأزرق… براميل متفجرة
في 14 آذار 1978 نفّذت إسرائيل الإجتياح الأول الواسع للبنان في عملية سمّتها «عملية الليطاني». لم يكن السبب المباشر لهذه العملية قصفاً عبر الحدود، بل تسللاً عبر البحر في «عملية كمال عدوان» في 11 آذار 1978 عندما انتقل 13 مسلحاً من حركة «فتح» بقيادة دلال المغربي البالغة من العمر 18 عاماً مِن لبنان لتنفيذ عمليّة فدائيّة بواسطة زورقين، واختطفوا حافلة على الطريق الساحلي قُرب حيفا، وفي الطريق إلى تل أبيب استولوا على حافلة ثانية. بعد مطاردة طويلة وإطلاق نار، قتل 37 إسرائيلياً بالإضافة إلى المشاركين في العملية التي كان هدفها الأساسي أخذ رهائن والمطالبة بإطلاق الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
بعد ثلاثة أيام بدأ الغزو الإسرائيلي للبنان. ولكن التدخّل الدولي كان سريعاً حيث اجتمع مجلس الأمن الدولي واصدر القرار 425 الذي طلب سحب الجيش الإسرائيلي وتشكّلت بموجبه القوات الدولية التي وصلت إلى لبنان في 23 آذار. ولكن الإنسحاب الإسرائيلي لم يكن كاملاً إذ أنشأت إسرائيل الشريط الحدودي بقيادة الرائد في الجيش اللبناني سعد حداد، ومنعت استكمال انتشار الجيش اللبناني على الحدود. لم تحل العملية دون استمرار الحرب في الجنوب وبقاء الفلسطينيين ومن معهم من قوى لبنانية مسلحة ومؤيدة عند حدود الشريط الحدودي الذي لم يتجاوز عمقه ستة كيلومترات، بحيث بقيت العمليات مستمرة وفشلت نظرية الأمن الإسرائيلي حتى في ظلّ هذا الشريط المستحدث الذي منع التسلّل البري ولم يوقف القصف.سلامة الجليل ليست مضمونة
عام 1982 تكرّرت نظرية أمن إسرائيل وحدود الليطاني. عندما بدأ الإجتياح الإسرائيلي الكبير في 6 حزيران من ذلك العام بقي رئيس منظمة التحرير الفسطينية ياسر عرفات يرجّح عدم تجاوز الجيش الإسرائيلي حدود الليطاني، أو حدود نهر الأولي شمال صيدا، على رغم أنّه كان مطّلعاً على التحضير لاجتياح كبير واسع نظراً للأجواء التي كانت سائدة بعد الإشتباك الجوي السوري الإسرائيلي خلال معركة زحلة في نيسان 1981، ووصول السفير الأميركي اللبناني الأصل فيليب حبيب موفداً من الرئيس الأميركي رونالد ريغن بمهمة محدّدة تهدف إلى منع تدهور الأوضاع نحو حرب إقليمية بين سوريا وإسرائيل.
كما حبيب، يعود تكراراً إلى المنطقة، آموس هوكشتاين موفد الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، وبهدف مماثل عنوانه منع تدهور الوضع الأمني بين إسرائيل و»حزب الله» وتحوّل الإشتباكات المحدودة إلى حرب واسعة تضطرّ معها إسرائيل إلى القيام باجتياح جديد قد يصل إلى حدود الليطاني، ويُطرح معه سحب سلاح «حزب الله» من جنوب النهر، وتنفيذ القرار 1701، وانتشار الجيش اللبناني على الحدود. وأضيفت إلى هذا الإقتراح مسألة إرسال قوات فرنسية تنتشر في الجانب اللبناني، وقوات أميركية تنتشر في الجانب الإسرائيلي. ولكن دون الإتفاق على هذا الحل رفض «حزب الله» له تلقائياً.
يعود هذا الطرح إلى التداول عبر تسريبات إسرائيلية على رغم أنّ عملية سلامة الجليل عام 1982 لم تؤدّ إلى النتيجة المطلوبة. صحيح أنّ الجيش الإسرائيلي احتلّ بيروت وأخرج منظمة التحرير وياسر عرفات والمسلحين الفلسطينيين من لبنان، إلّا أنّ كلّ ذلك انهار بعد أعوام. في نيسان 1985 انسحب الجيش الإسرائيلي إلى الشريط الحدودي الذي توسّع ليشمل منطقة جزين نتيجة تدخّل الفاتيكان. ولكن التطورات اللاحقة أثبتت سقوط نظرية الأمن الذي يؤمّنه هذا الشريط. خلال هذه المرحلة كلّها لم يكن «حزب الله» قد سيطر على الأمن في الجنوب. ولكن في العام 1990 انتقلت إليه مسؤولية الأمن هناك بعد حروبه ضد حركة «أمل» وبعد إخراج سائر القوى المحلية التي كانت تشارك في العمليات ضد الجيش الإسرائيلي من المعادلة. هذا الوضع أدى إلى حربين محدودتين في تموز 1993 وفي نيسان 1996. ولكن إسرائيل لم تتجاوز الحدود فيهما.
بين أيار 2000 وتموز 2006
هذا المسار اكتمل في الإنسحاب الإسرائيلي الكامل في 25 أيار من العام 2000. لم ينتشر الجيش اللبناني في الجنوب على رغم مشاركته مع القوات الدولية في ترسيم خطّ الإنسحاب الإسرائيلي الذي صار يُعرف بالخط الأزرق. ولكن «حزب الله» احترم مبدئياً هذا الخط ولم ينفّذ عمليات عبر الحدود وإن كان انصرف إلى بناء قدرات عسكرية وصاروخية اعتبر أنّه من خلالها يستطيع أن يؤمّن توازن رعب مع إسرائيل.
في 12 تموز 2006 خرق «الحزب» الخط الأزرق وتمكّن من أسر جنديين إسرائيليين. وجدت إسرائيل نفسها مرة جديدة في مواجهة الخطر الأمني من الجنوب وشنّت حرباً امتدّت حتى 13 آب من العام نفسه وانتهت بعد صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن الذي عزّز وجود القوات الدولية والجيش اللبناني ولكنّه لم يمنع الحرب، ولم يطبَّق لجهة نزع سلاح «حزب الله».
اسرئيل تريد و»الحزب» لا يريد؟
اليوم تعود مسألة أمن إسرائيل إلى الواجهة متزامنة مع نظرية حدود الليطاني. لم تستطع القوات الدولية أن تمنع حرب 1982 ولا حروب 1993 و1996 و2006. ولا الجيش اللبناني أمسك بالوضع الأمني في الجنوب. ولا الحكومات المتعاقبة حدّت من نشاط «حزب الله» العسكري الذي بقي يجهّز نفسه لمواجهة كبيرة. إذا كانت إسرائيل تطالب بضمان أمنها عبر تطبيق القرار 1701 مع غطاء دولي جديد، فمن يقنع «حزب الله» بالإنضواء تحت سقف المطالب الإسرائيلية؟ وإذا كانت إسرائيل تطرح مثلاً انتشار قوات فرنسية وأميركية على جانبي الحدود فهل هذا يعني الإستغناء عن دور القوات الدولية؟
لا يمكن أن يقبل «الحزب» بهذا الطرح ولا بوجود قوات فرنسية أو غير فرنسية لأنّه لا يمكنه أن يقبل بالتخلّي عن استخدام ما يعتبر أنّه مصدر قوته، وهو سلاحه، حتى لو لم يكن مطالَباً بالتخلّي عن هذا السلاح. فماذا سيفعل عندها بهذا السلاح؟ وحتى لو قبِل، فمن يضمن التزامه الدائم بهذا الأمر؟ ومن يضمن أيضاً عدم استخدامه الصواريخ البعيدة المدى التي يمكن أن يطلقها من شمال الليطاني؟ وبالتالي طالما أنّ الوضع لم يتغيّر بعد بشكل كامل في غزّة وفي منطقة الحدود مع لبنان، فإنّ «الحزب» لا يمكن أن يقدّم ما يعتبر أنّه هدية مجانية إلى إسرائيل. وإذا رفض القرار 1701 بعد حرب قاسية في تموز 2006 فلماذا يقبل تطبيقه معدّلاً وبصورة أقوى من دون حرب؟ ولماذا عليه أن يقبل رسمياً بضمان أمن إسرائيل وهو الذي بنى استراتيجيته على القضاء عليها؟