لم يجد مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل تبريراً لفيض التفاؤل الذي لمسه لدى المسؤولين في الدولة اللبنانية أو المتحدثين باسمها في الحكومة. خلال زيارته الأخيرة لاحظ وجود فريقين يتحدث كل منهما لغة مختلفة عن الآخر. تبدي الحكومة تفاؤلاً بمضي المساعي الدولية قدماً في مساعدة لبنان لترسيم حدوده البرية الجنوبية مع إسرائيل تمهيداً لتطبيق القرار 1701، وتبلغ المستفسرين بأنّ الموفد الأميركي آموس هوكشتاين يعمل على هذا المسار، وأنّ الأميركيين يسعون إلى نزع فتيل التصعيد في الجنوب اللبناني والأوضاع تتّجه لما فيه مصلحة لبنان.
على الضفة المقابلة، وبعد لقائه «حزب الله»، لمس صعوبة وقفه العمليات على الحدود الجنوبية، وأنّه مستعد لمواجهة التصعيد الإسرائيلي، ويعتبر أنّ تهدئة الساحة من طرف واحد من جانبة يعني انتصاراً لن يمنحه لإسرائيل. تبلّغ بوريل صراحة أن لا وقف للحرب جنوباً ما دامت الحرب على غزة مستمرة. ولمس أنّ «حزب الله» غير معني بما يحمله هوكشتاين، إلا من ناحية استدراج عروض على وقع الميدان، وأنّ توافد الموفدين الدوليين وسعيهم الدؤوب الى حل ديبلوماسي سببه الخسائر التي تلحق بإسرائيل نتيجة هذه الحرب. إسرائيل المأزومة في الداخل والمنقسمة على ذاتها وداخل حكومتها، تعتبر أنّ ساحة الجنوب اللبناني تشكل ضغطاً هائلاً عليها وتعرقل حربها على غزة، لذلك لن تتوانى عن تقديم تنازلات كي تضمن عودة الهدوء إلى شمالها.
في الحديث مع بوريل كانت هناك لغتان ولهجتان، واحدة رسمية تقول إنّ لبنان جاهز لتطبيق القرار 1701 وترسيم الحدود البرية بشرط ضمان تطبيق إسرائيل هذا القرار وانسحابها من المناطق التي تحتلها، وبذلك يمكن سحب الذريعة من «حزب الله» ودعوته إلى وقف عملياته. يتوسل لبنان الرسمي الموفدين الدوليين للمساعدة في سحب الذرائع التي يخوض «حزب الله» لأجلها حربه، لذلك هو يستعجل مهمة هوكشتاين ويعول عليها، وقد أبلغه في أعقاب زيارته الأخيرة أنّ ما يطلبه من «حزب الله» يجب أن تلتزم تنفيذه اسرائيل أولاً وتتعهد بذلك كي يلتزم لبنان الرسمي به، ومن ثم «حزب الله».
أما اللغة الثانية أي الموقف الفعلي والمقرر في السياسة فهو موقف «حزب الله» الثابت والحازم بأنّ لا مفاوضات ترسيم ولا التزام تنفيذ القرار 1701 قبل وقف حرب غزة. وهنا الفرق بين موقف لبنان الرسمي وموقف «حزب الله». وإذا كان «الحزب» يلتزم قرار الدولة، في التفاوض حيال الحدود، كما سبق وحصل خلال الترسيم البحري، فإنّه اليوم لا يجد نفسه حاضراً للإنخراط في أي عملية تفاوض ما لم تتوقف جبهة غزة وتنضج التسوية الأميركية – الإيرانية- الروسية التي يتردّد صداها في المنطقة. وهنا يكمن الاختلاف بين من يعتقد أنّه يمكنه النأي بنفسه والشروع منفرداً في ايجاد حلّ لجبهة الجنوب وبين من أدخل هذه الجبهة في سياق وحدة الساحات سياسياً، كما عسكرياً.
وهذه اللغة كانت مثار تساؤل الموفد الأوروبي الذي استغرب كيف أنّ لبنان لا يزال يتعامل مع تهديدات اسرائيل بالحرب على أنّها مجرد تهويل ومحاولة للضغط، خلافاً للمعلومات التي في حوزته، والتي أبلغها الى الحكومة كما الى «حزب الله»، ومفادها أنّ رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتياهو لن يتردد في توسيع حربه على لبنان، وأنّ في الداخل الإسرائيلي من يقنعه بالردّ على «حزب الله» واغتنام الفرصة لتصفية الحساب معه، وهو أقرب إلى الأصوات التي تدعوه الى التصعيد أكثر من ميله الى التراجع. وعلى حد قول المسؤول الأوروبي فإنّ حرب غزة طويلة ومعقدة، كما أنّ إسرائيل ترفض تطبيق القرار 1701 من جهتها، وربط ساحة الجنوب بها سيجعل لبنان عرضة لحرب تفوق قدرته على التحمل. مذهولاً كان بوريل بخلاصة ما سمعه وبالاستنتاجات التي انتهى إليها والإرتياح الرسمي غير المبرر للأوضاع الميدانية، كما السياسية.
وفي السياق نفسه، تندرج زيارة الموفد الأميركي الحالية، إذ يدرك هوكشتاين أنّ زيارته لن تقدّم ولن تؤخّر، وأنّ العامل الأساسي فيها هو التحضير لمرحلة ما بعد غزة سياسياً، وأنّ أي مسعى لن يلقى تجاوباً من الجهة الوحيدة المعنية أي «حزب الله» قبل التسوية في غزة، وقد تبلّغ بأنّ الأمين العام لـ»حزب الله» في حديثه عن الفرصة التاريخية، إنما قصد التسوية بعد انتهاء الحرب، بحيث سيكون في وسع لبنان الاستثمار في نتائج حربه في الميدان، لأنّ إسرائيل والغرب يريدان ضمان الاستقرار على الحدود الشمالية، وهذا لا يتأمّن إلا بالترسيم وتطبيق القرار 1701، وهما مطلبان اسرائيليان.
«حزب الله» الذي يدفع فاتورة الحرب غالياً لن يتراجع من أجل أي صفقة سياسية أحادية، وهو كما أبلغ الى الموفدين الغربيين، أنّ أي حرب إسرائيلية ستجرّ معها الويلات على إسرائيل. هنا لا حضور للموقف الرسمي بأكثر من تمنّيات وسعي على قاعدة اسحبوا ذرائع «حزب الله» للحرب كي نضغط عليه، وبمعنى آخر: ساعدونا، لأنّ القرار ليس في يدنا ونحن لا نقدم ولا نؤخّر ما دامت الكلمة للميدان. فصل الكلام أنّ جولات الموفدين هي بروتوكولية في الشكل، أما مضمونها فيصبح بعيداً عن السراي والخارجية، مجرد حفظ ماء الوجه.