IMLebanon

“لغوٌ” عسكري في دولةٍ تائهة

 

إذا رأيت الهوى في أُمَّةٍ حكماً

فاحكم هناك بأن العقل قد ذهبا

(الشاعر أحمد أحمد شوقي)

 

تنشط الدبلوماسية الصديقة للبنان، في البحث عن إيجادِ حلٍّ سلميٍّ لجنوبه، تفادياً لما هو أخطر من الإشتباكات الحالية المحدودة، بين «حزب الله» وإسرائيل التي تُصِرُّ على إيجاد حلٍّ دائمٍ ونهائي بين الدولتين، سلماً أو حرباً. أحد هذه الحلول يقضي بانسحاب «الحزب» وسلاحه إلى شمالي نهر الليطاني، وتجهيز خمسة عشر ألف جندي وإرسالهم إلى الجنوب. بعض السياسيين والقادة اللبنانيين، يعتبرون أن هذا الحلّ الذي يعيدُ السلام إلى الجنوب، قد يُشكِّلُ مدخلاً للوصول إلى حلٍّ دائم لسيادة الدولة اللبنانية على كلِّ أراضيها، وبداية انطلاقتها من جديد. فهل هذا صحيح؟

 

أولاً: طبعاً لا. فانهيارُ الدولة في لبنان وتفكُّكها، لم يكن يوماً سببه حجمُ جيشها وطبيعة معداته؛ إنما كان سببه دائماً، عدم إيمانِ بعضِ من المواطنين بهذه الدولة؛ والبراهين على ذلك لا تُعدُّ ولا تُحصى. فيوم كان الجنوب في عهدة الدولة بين عامي 1949و1968، لم يُقتل أبناؤه ولم تُدمَّر قُراه وممتلكاته ولم ينزح شعبه؛ وجيلي ومن سبقه من الضباط شاهدٌ على ذلك؛ ولم يكن حجم الجيش المنتشر على الحدود الجنوبية في حينه، سوى ألف عسكري يقابلهم ألف عسكري إسرائيلي في الجانب الآخر، تطبيقاً لاتِّفاقِ الهدنة. لا بل كان لضباط المكتب الثاني في الجيش، شبكات إستعلام وتواصل مع الفلسطينيين في الجانب الآخر من الحدود. وعندما أصبح الجنوب بيدِ المنظمات المسلحة، سواءٌ كانت فلسطينية أو حزباللهية، تعرَّض الجنوب لهذه الخسائر في الأرواح والتدمير والنزوح.

 

ثانياً: ولنفرض أن لبنان أرسل إلى الجنوب الخمسة عشر ألف جنديّ ، مجهزين بأحدثِ المعدات والعتاد، وبقي «حزب الله» متمسِّكاً بسلاحه، كما هو الإتفاق، شمالي الليطاني (ولكن إلى متى؟)، فمن يُراقب التنفيذ في غياب الدولة التي لا يعترف «الحزب» بها؟ قد يعتقد البعض أنّ مهمة هؤلاء الخمسة عشر ألف جندي منع نشاط «حزب الله» في الجنوب بالقوة، لكن يجب أن يعلم الجميع أن الجيوش لا تقاتل شعوبها، إنما تدافع عن حدود الدولة في الخارج، وتحفظ السلم الأهلي في الأزمات. وهل الجيش في الجنوب هو أقوى من جيش شاه إيران، عندما أطاح به الشعب الإيراني وبدون سلاح؟ ومن يضبط «الأهالي» (بلغة «الحزب») في الجنوب إذا أراد إسقاط دور الجيش لإعادة لعبِ دوره كحرس ثوري، مهمته مشاغلة إسرائيل من وقت لآخر خدمة للمشروع الإيراني؟ وألم يساهم الجنوبيون في إسقاط دور الجيش في الجنوب في سبعينات القرن الماضي؟

 

ثالثاً: ولنفرض جدلاً أنّ «الحزب» وافق عمليَّاً على انتشار الجيش في الجنوب، ولكنه احتفظ بسلاحه في الداخل، حتى زوال إسرائيل كما يدّعي، أو استرجاع «مسمار جحا» في شبعا؛ فهل يمكن بناء دولةٍ بلا حدود، إذا بقي هذا «الحزب» مسيطراً عليها؟ وهل يمكن بناء دولة في ثقافتين: إحداهما ديموقراطية وأخرى تسلطية قمعية؟ وهل يوافق «الحزب» على ممارسة الديموقراطية في بيئته؟ وهل يوجد دولة في هذا الكون، يحمل أحد أحزابها سلاحاً ويفرضُ إرادته على بقية الشعب، لتكون نموذجاً للبنان!

 

رابعاً: الجيش اللبناني يعيش منذ أكثر من نصف قرنٍ حروباً وأزمات داخل لبنان، الأمر الذي لم يعانِ منه أيُ جيشٍ أو بلدٍ في العالم. فهل يدرك المسؤولون حجم تكلفة الجيوش؟ وهل يعلم المسؤولون أنّ نسبة اليد العاملة في الجيش لعدد المواطنين وعلى مدى عشرات السنين هي الأعلى بكثير من أي دولةٍ خاضت الحروب الكونية لأربع أو خمس سنوات؟ والأغرب أنّ البعض يطالب الدول الكبرى الصديقة بإعطائنا السلاح لنحارب إسرائيل، وغاب عن بال هذا البعض أن الأسلحة تُشرى ولا تُستعطى؟ وأنّ الدخل القومي في إسرائيل يساوي 650 مليار دولار، بينما دخلنا القومي، بسبب نشاط «الحزب»، لا يُلامس العشرين مليار دولار؟

 

وأخيراً حتى إذا جهَّزنا خمسة عشر ألف جندي للجنوب بأحدث الأسلحة، فلا يمكننا بهؤلاء إقامة توازن عسكري مع الجيش الإسرائيلي (لأن التوازن بين الدول تفرضُه السياسة والدبلوماسية)، كذلك لايمكننا إقامة دولة سيِّدة في لبنان بوجود منظمة مسلحة خارجة عن الشرعية. والنتيجة؟

 

قد يُنتِجُ «اللغط» العسكري سلاماً للجنوب فقط؛ لكن أين السلام للبنان في ظِلِّ ثقافتين متناقضتين: ثقافة تؤلّه الموت وأخرى تعمل للحياة. فما لم يجد اللبنانيون حلاًّ بالأفضلية لهذه المعضلة لبناء وحدة وطنية، قبل الإكثار من «اللغو» العسكري وهدر الأموال، يكونون بذلك كمن يداوي مرضاً عضالاً بالمراهم.