على السطح كثير من الأحاديث عن متغيرات الميدان الجنوبي المربوط بميدان غزة. لكن المسألة ليست أن تتغير او لا تتغير، ضمن حسابات وضوابط، قواعد اللعبة على جبهة الجنوب. المسألة أن اللعبة في لبنان تبدو كأنها تغيرت في إطار رهانات على تبدل اللعبة في الشرق الأوسط. وكلما اتسعت الدعوات الى تطبيق القرار 1701 بكل مندرجاته والعودة الى تطبيق إتفاق الطائف نصاً وروحاً، كشفت الوقائع أن فريق «الممانعة» يعمل لتجاوز كل ذلك ولم يعد يكتفي بما حصل عليه في «إتفاق الدوحة» من مكاسب. فلا «الثلث المعطل» بات يكفيه، بعدما صار قادراً على تعطيل البلد ودستوره وفرض الشغور على رئاسته. ولا بقي في حاجة الى المحافظة، ولو في الشكل، على ثلاثية «جيش وشعب ومقاومة»، بحيث انفردت المقاومة بشن حرب وانخرطت في حرب اخرى من دون اعتبار للجيش والشعب ومركز القرار الشرعي.
ذلك أن «حزب الله» لعب في حربين دوراً أوحى أن المقاومة الإسلامية في لبنان تخطت مرحلة مقاومة الإحتلال الإسرائيلي وتحرير الأرض الى مرحلة القتال الإقليمي. من المشاركة في حرب سوريا دفاعاً عن النظام الى خوض حرب على جبهة الجنوب لإسناد «حماس» في حرب غزة. وفي الحالين لعبة كبيرة، لا فقط من خارج السلطة بل ايضاً من خارج النظام وحتى من الخروج عليه. وها هو السيد حسن نصرالله يقول بصراحة مطلقة: «إن الربط قاطع ونهائي وحاسم بين جبهة الجنوب وجبهة غزة». ولا شيء يؤثر في القرار. لا أية قوة في الداخل وفي العالم تستطيع تغيير موقفه. ولا الضغوط، سواء كانت عسكرية او سياسية او إقتصادية، قادرة على تليين الموقف. ولا حاجة بعد الآن الى أية مظلة شرعية او من حليف وصديق للإيحاء أن المقاومة لا تزال كما كانت قبل العام 2000 حين انسحبت إسرائيل مدحورة من الجنوب تحت ضربات المقاومة.
اكثر من ذلك، فإن السيد نصرالله حدد مؤخراً لحرب الإسناد عبر جبهة الجنوب هدفاً مباشراً هو «الضغط لوقف الحرب في غزة». وهذا تطور ثوري في الحروب: حرب لوقف حرب اخرى. حرب من بلد مع عدو لوقف حرب على مكان آخر. اما الضحايا والخسائر، فإنها ثمن لا بد منه في الحسابات الجيوسياسية. ولا شيء يضمن وقف الحرب في غزة، وهي في نظر «حماس» كما في نظر اسرائيل «حرب وجود». وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت يقول: «إن هذه الحرب ستشكل حياتنا لعقود مقبلة». وقادة «حماس» يخوضون، لا فقط حرب الإنتصار والبقاء في قطاع غزة بل ايضاً حرب تحرير فلسطين التاريخية من البحر الى النهر. وهناك بالطبع أهداف أخرى لحرب الجبهة الجنوبية، ورهان على أن تكون اليد العليا في لبنان والمنطقة لـ»محور المقاومة» بقيادة ايران.
وليس امراً عادياً ان تبدو المقاومة مكتفية بالقوة العسكرية ودعم بيئتها، في حين أن القاعدة في العالم هي أن قوة المقاومة بالمعنى الوطني، لا العسكري، تتجسد في دعمها من كل الأطراف والتيارات في البلد، لا من جهة واحدة.
أيام الإغريق رأى هيراقليط «أن الحرب هي أب كل الأشياء». لكن لبنان، ولو قيل إنه ابن حروب، أكبر من اختصاره بجبهة الجنوب.