يدرك الإسرائيليون تماماً لماذا يتعمّد «حزب الله» تصعيد القتال في الجنوب، منذ أيام. وفي المقابل، ما زال «الحزب» يراهن على أنّ إسرائيل ستتجنّب حالياً توسيع الحرب. وهكذا، يتبادل الجانبان رسائل السقف العالي بالنار. لكن الانفلات قد يصبح وارداً في أي لحظة.
عندما أطلق الرئيس الأميركي جو بايدن مبادرته حول غزة، توقّع البعض أن تتراجع حدّة العنف في جنوب لبنان. لكن ما حصل هو العكس. فقد عمد «حزب الله» إلى التصعيد كمّاً ونوعاً. واستخدم أسلحة متطورة قال الإسرائيليون إنّ بينها صواريخ «كروز». كما وسّع رقعة استهدافاته لتشمل مستوطنات جديدة في شمال إسرائيل والجولان. وترافق التصعيد مع زيارة وزير الخارجية الإيراني بالوكالة علي باقري كني للبنان في أول مهمّة له خارج طهران بعد تعيينه.
وهذا التصعيد يبدو بديهياً لسببين: أولاً، لأنّ لا مصلحة لإيران في وقف «المشاغلة» في جنوب لبنان وترك «حماس» وحيدة ومستضعفة في مواجهة إسرائيل. وثانياً، لأنّ «حزب الله» يريد أن يرفع السقف إلى الحدّ الأقصى، استعداداً لأي عملية تفاوض يُحتمل أن تقود إليها التطورات في غزة.
وفي الواقع، يخشى الإيرانيون خلفيات الخطة التي طرحها بايدن. ففي نظرهم أنّ هاجس الرجل هو تحقيق إنجاز في الشرق الأوسط يستثمره في الانتخابات الرئاسية، بعد أشهر قليلة. ولذلك، هو تحّرك على خطين: طرَحَ المبادرة الخاصة بغزة، وأعاد إلى الضوء مسار التطبيع العربي ـ الإسرائيلي.
لكن بايدن قالها صراحة: «مبادرتي ليست مشروعاً أميركياً، بل إنّ حكومة بنيامين نتنياهو هي التي طرحتها». ثم يستطرد ليقول: «سيكون من حق إسرائيل أن تستأنف القتال في غزة إذا لم تتجاوب «حماس» مع الخطة». وهذا يعني أنّ واشنطن يهمّها من الحل أن ترضي طرفاً واحداً هو إسرائيل. كما يعني أنّ هذه الخطة ليست متوازنة في جوهرها لأنّ من صاغها هو أحد طرفي النزاع. وهذا ما يدفع الإيرانيين إلى طرح شكوك حولها. وفي الواقع، تبدو «حماس» هي الطرف المحشور في هذه التسوية، فيما أركان حكومة نتنياهو يتوزعون الأدوار بين متحفظ ورافض للخطة، بهدف المناورة والحصول من الأميركيين على الضوء الأخضر دائماً، سواءً في القتال أو على طاولة المفاوضات.
وفي الخلاصة، يمكن أن يوافق الإسرائيليون على السير في المراحل الثلاث التي تتألف منها الخطة، لكنهم سيحتفظون لأنفسهم بالحق في التفسير. فلو دام القتال سنوات، هم سيرفضون إنهاء الحرب ما لم ينته وجود «حماس» عسكرياً وسياسياً، وتُقطع كل الأنفاق التي عبرها يتواصل العناصر مع الخارج أو يحصلون على المؤن.
وبعد تهجير أعداد كبيرة من سكان القطاع، مستخدمين التدمير والتجويع وتعطيل دورة الحياة، يفكّر الإسرائيليون في تقسيمه 6 مربعات شبه مستقلة إدارياً، تحت إشرافهم، على أن تتسلّم كل من هذه الأقسام فاعليات فلسطينية محلية يجهدون لإقناعها بتأدية هذه المهمّة بدلاً من «حماس». وتحقيق هذا الهدف قد يكون الأصعب على الإسرائيليين، لأنّ اقتلاع «حماس» من المجتمع الفلسطيني في غزة والاستعاضة عنها بفاعليات أو عائلات أو هيئات معينة قد لا يكون رهاناً بسيطاً.
الأميركيون يمارسون أقصى الضغوط لتوافق «حماس» على الخطة. لكن الحركة التي تعتريها الشكوك تدرك أنّ ورقة القوة الوحيدة التي ما زالت تملكها هي الرهائن. فإذا تخلّت عنهم سيصبح الإسرائيليون قادرين على مواصلة القتال بلا روادع، ولو لسنوات.
ولذلك، تقف «حماس» اليوم بين خيارين: أن ترفض الخطة وتتحمّل المسؤولية عن مواصلة الحرب، أو أن توافق على خطة أعدّها الإسرائيليون وأعطوها للأميركيين لكي يتولوا إعلانها بلسانهم. وهذا ما يقلق إيران ويدفع «حزب الله» إلى «التصعيد التذكيري»: «نحن هنا، وقادرون على التأثير في المعادلة، إذا تعرّض الحلفاء في غزة للخطر».
ولكن، كيف ستردّ إسرائيل على التصعيد؟ وهل ينزلق الوضع إلى انفجار واسع للحرب؟
الواضح أنّ الإسرائيليين يعمدون أيضاً إلى توسيع دائرة غاراتهم شمالاً. ولكن، حتى اليوم، الاقتناع السائد هو أنّهم لن يشنوا حرباً واسعة. أولاً، لانشغالهم بالهدف الأساسي أي غزة، وثانياً، بسبب المظلة الغربية المتينة التي تمنعهم من المغامرة، وتجبرهم على التزام الحدّ الأدنى لضوابط القرار 1701.
لا أهداف يرمي الإسرائيليون إلى تحقيقها في لبنان كتلك التي يعملون لها في غزة، حيث هاجسهم محو الهوية الفلسطينية. وإنما هم يصرّون في لبنان على خلق منطقة عازلة لمنع تكرار «طوفان الأقصى» في شمال إسرائيل.
وعلى أرض الواقع، ما حصل في الجنوب بعد 8 أشهر من «الحرب المتقطعة»، هو أنّ منطقة حدودية واسعة باتت مدمّرة جزئياً، ومهجّرة جزئياً، وتعاني شللاً في الحياة الاقتصادية، ما يوحي للبعض بأنّ الإسرائيليين ربما يكونون على وشك تثبيت المنطقة العازلة بفعل الأمر الواقع.
هذه الفرضية ترتبط بما يتردّد في بعض الأوساط عن سعي إسرائيلي إلى تحقيق المنطقة العازلة أو الآمنة في فترة أقصاها آب المقبل، لأنّهم في أي شكل يريدون إعادة سكان الشمال إلى منازلهم قبل بدء العام الدراسي الجديد، في أيلول. وفي الانتظار، واضح أنّ صيف الجنوب سينطلق بمزيد من السخونة، لكن نهاياته قد تصبح تفجيرية.