مع تواصل اعتداءات جيش العدو في لبنان، تتصاعد ردود المقاومة الإسلامية التي تُفاقم استنزافه وتُضيِّق خياراته. وفي كل مرة يجد فيها نفسه مجدّداً أمام تحدّي الردّ التصاعدي على اعتداءاته، أو أمام التدحرج نحو مواجهة كبرى، تمثل أمامه مرة أخرى حقيقة أن المخرج الوحيد من هذا المأزق هو وقف الحرب على غزة.وكعيِّنة على هذه المعادلة التي تُعمّق ورطته، طاولت ردود حزب الله في اليومين الماضيين مجدداً عمق شمال فلسطين المحتلة مع استهداف قاعدة «نيمرا» غرب طبريا، على بعد نحو 30 كلم عن الحدود اللبنانية، ومواصلة دك مقر وحدة المراقبة الجوية وإدارة العمليات الجوية في قاعدة ميرون، والرد غير المسبوق باستهداف مركز الاستطلاع الفني والإلكتروني البعيد المدى في جبل حرمون في الجولان بأسراب متتالية من المسيّرات الانقضاضية، إضافة الى العمليات التي نجح حزب الله في فرضها بشكل يومي وتستهدف مواقع العدو وجنوده وضباطه.
انطوت هذه الردود على مروحة رسائل، من ضمنها أنها كرَّست سقفاً فرضه حزب الله باستهداف عمق الشمال بشكل مدروس وهادف، في مؤشر صريح للعدو بأن تجاوز اعتداءاته القواعد التي تحكم حركة الميدان، يعني أن الردود ستكون أشد وطأة. وليس دك مرصد جبل الشيخ إلا مؤشراً على أن قائمة أهداف حزب الله طويلة جداً وتتضمن الكثير من الأهداف النوعية والاستراتيجية والحيوية، ولا يفصل عن استهدافها سوى قرار ردّ على اعتداءات يقدم عليها العدو انطلاقاً من تقديرات وحسابات مُحدّدة. ويكشف تكتيك الأسراب الانقضاضية المتتالية غير المسبوق طوال تسعة أشهر، أنه يمكن لضربات حزب الله أن تكون أكثر قسوة من دون حاجة إلى إدخال وسائل جديدة، حتى الآن.
استناداً الى مزايا هذه العمليات وسياقها، وانطلاقاً من معرفة العدوّ بالمفهوم العملياتي لحزب الله، من الواضح أن العدو ينظر الى مسار هذه الردود على أنها ارتقاء متدرج ومضبوط، على مستوى الأهداف والعمق الجغرافي وأدوات الاستهداف، وأن ذلك يفتح الباب أيضاً أمام ارتقاء نوعي وكمي جديدين إذا ما اقتضت تطورات الميدان ذلك. ولم يفت العدو أيضاً البرنامج المدروس للضربات التي يوجّهها حزب الله وعلاقتها بالاستعداد العملياتي لأي سيناريوات لاحقة. وفي هذا المجال، لفت حساب اينتلي تايمز على منصة X إلى أن ضربات حزب الله لا تستهدف الانتقام، وإنما بهذه الذريعة تضرب عناصر قوة جيش الاحتلال استعداداً وتحسّباً لفرضية نشوب حرب.
منذ فتح جبهة لبنان إسناداً ودعماً لغزة ومقاومتها، أوضح حزب الله أنه سيردّ على أيّ اعتداء يرى فيه تجاوزاً لقواعد الاشتباك التي فرضها في الميدان. ونتيجة ذلك، يتلقّى العدو ضربات يدرك معها أنها ثمن لهذا الاعتداء أو ذاك، وخصوصاً أنه يعقبها بيان من الإعلام الحربي في المقاومة الإسلامية يضع كل عملية في سياقها الدقيق. مع ذلك، تبقى هذه الردود في السياق الأعمّ لمعركة إسناد غزة والدفاع عن لبنان. ولذلك، لا يمكن الفصل على مستوى النتائج والتداعيات بين العمليات التي تأتي في سياق الرد والدفاع عن لبنان، وبين كونها تندرج ضمن السياسة العملياتية للمقاومة في إسناد غزة. وينبع ذلك من كون جبهات الإسناد المتعدّدة تواجه عدوّاً مشتركاً في سياق واحد، لذلك وإن كانت هذه الجبهات منفصلة جغرافياً، إلا أنها متصلة استراتيجياً ومتكاملة عملياتياً.
في ضوء ما تقدم، يتضح أن مجمل العمليات الابتدائية أو من موقع الرد، يأتي أيضاً في سياق مراكمة الضغوط والاستنزاف العسكري والمادي والبشري والأمني. وليس عرضياً أن تحضر كل هذه الأبعاد في وعي مؤسسة قرار العدوّ، كونها تتموضع أيضاً في إطار حساباته لدى تقدير أيّ خيارات وقرارات، ومن ضمنها أن مسار الردود هو في اتجاه تصاعدي مع ما قد يترتّب على ذلك من نتائج وتداعيات لبنانية وفلسطينية وإقليمية.
يكشف تكتيك الأسراب الانقضاضية المتتالية أنه يمكن للردود أن تكون أكثر قسوة من دون حاجة إلى إدخال وسائل جديدة
مع ذلك، فإن من العوامل التي تساهم في بلورة ردود حزب الله الى جانب طبيعة الاعتداء وحجمه وعمقه، أن لا يؤدي الى نشوب حرب ما دام ذلك ممكناً. إلا أن ردود حزب الله أظهرت للعدو في الوقت نفسه أن ضابطة عدم التدحرج إلى الحرب لا تعني امتلاك العدو حرية توسيع اعتداءاته من دون أثمان تصاعدية، وهامشاً مريحاً في فرض وقائع على الأرض تسلب المقاومة القدرة على الرد والدفاع، لأن ذلك دونه ما لا يزال حزب الله يكتفي بالإشارة إليه.
تشي هذه العوامل – المحددات، أن حزب الله يخوض معركة الإسناد وفق استراتيجية مدروسة تستند الى التصميم على مواصلة هذا الخيار مهما كانت التضحيات، وهو ما تجلّى في الشعار الذي اختاره حزب الله لإحياء مراسم عاشوراء لهذا العام (أوَلسنا على الحق، إذاً لا نبالي)، وأكد عليه أمينه العام السيد حسن نصر الله، شرحاً وتطبيقاً على الموقف من نصرة غزة ومواجهة العدو الإسرائيلي. وإذا كان هناك في مؤسسات التقدير والمختصة للعدوّ من يدَّعي فهم الخلفية الثقافية لحزب الله، وتحديداً الطاقم المختص في الاستخبارات العسكرية (أمان)، بمتابعة كل ما يتعلق بمواقف وفكر شخص السيد نصر الله (تم الكشف عنه قبل سنوات)، فإن عليه مساعدة مؤسسة القرار السياسي والأمني في تل أبيب، في إدراك حقيقة أن لا أمل على الإطلاق من إمكانية تراجع حزب الله والاستفراد بغزة.