كانت النية معقودة على التوجيه جنوباً في الصباح الباكر ليوم السبت 7 أيلول، في «طلعة» خاطفة للتفقد، والقيام ببعض الواجبات، والوقوف لثوانٍ على أطلال عمر مضى بين الأهداف الكبرى،المحالة، والعمليات القاتلة ضد جغرافيا من لبنان، وعليها شتى مكونات هذا البلد، مع غلبة لمكوّن من حيث القوة العددية والانتشار على جغرافيا الجنوب الممتدة من رأس الناقورة على امتداد الخط الأزرق الى مزارع شبعا المحتلة عام 1967، في اطار حرب حزيران أو ما أطلق عليه حرب الأيام الستة.
مع بدايات المساء، وحتى التاسعة ليل (الجمعة 6 أيلول) حملت الأنباء معلومات عن قصف في الأودية الفاصلة بين أطراف بلدتي فرون وصريفا، امتداداً الى قاطعي جسر الليطاني، حيث يرابط الجيش اللبناني، وبجواره وحدات من قوات اليونيفيل العاملة جنوبي النهر، حيث هناك تدور حرب المساندة التي امتدت لتشمل كل لبنان تقريباً، وتحديداً الى منطقة البقاع إلى الطريق الدولية اللبنانية – السورية.
شكلت الغارات الـ12 أو الـ14 صدمة في تطور «حرب المساندة»، وعاش الناس عند القرى المتاخمة لمجرى الليطاني ومتفرعاته من الأودية والمرتفعات ليلة غير مسبوقة من الذعر والترويع، ملتزمين المنازل، ومعتصمين بحبل الله وما تفرقوا.
كانت الغارات، وفقاً لبعض من شهد الليل، شديدة الإنفجار وضخمة الوقع.. وانقضت الليلة على سلامة لجهة الإصابات بين المواطنين الآمنين.. حتى جاء اليوم التالي، فبعد التدخل لإطفاء الحرائق التي اشتعلت وطوقت بلدتي فرون وصريفا من جهتي الشمال والغرب، تمكن الشباب المسعفون، من الدفاع المدني، والهيئات التي بالكاد لديها القدرة على عمل شيء من المساهمة في اطفاء الحرائق، التي هددت مواسم الزيتون وما تبقى من اشجار مثمرة ومراعٍ للماعز والعصافير المهاجرة، ذهبت سيارة الدفاع المدني لإطفاء ما تجدَّد من حرائق بقيادة المسعف الشجاع، والمقدام قاسم عادل بزي، مع مجموعة من رفاقه المسعفين، الذين آثروا الصمود والبقاء، على الرحيل أو الابتعاد عن خط النار، بعضهم قضى شهيداً مع قاسم (محمد هاشم وعباس حمود) وبعضهم أُدخل الى المستشفى بحالة حرجة (كحسن شحادة).
فجأة تذكر الإحتلال الاسرائيلي، بلدة فرون ومحيطها، والتي كانت أذاقته المرارة العسكرية في حرب تموز 2006، سواء عندما تصدت له في آخر نقطة وصلها أو المساهمة الواضحة في معركة وادي الحجير، حيث لم ينسَ مجزرة الدبابات فتأهب لقصفها العنيف والخطير مساء الجمعة، ملحقاً خسائر جمة في المزروعات والأشجار والبشر والحجر، متجاوزاً كل أعراف الدنيا وقوانين الإنسان من العصر الحجري الى عصر الصواريخ، وكل أدبيات الحروب وأخلاقياتها..
في الحرب، يفهم المرء استهداف موقع عسكري أو جندي أو ثكنة أو طائرة أو دبابة، أمَّا أن يتحوَّل البشر العُزَّل أو الطواقم الطبية والمسعفة، إلى أهداف للحرب، فهذه مسألة غير مسبوقة في تاريخ الحروب، لا في الماضي السحيق، ولا حتى في حروب الإبادة العنصرية في أفريقيا ومقاطعات يوغسلافيا السابقة..
المسألة هنا، تتعدى إضافة نعوت على همجية إسرائيل الدولة، وهمجية اليهود كشعب أيضاً (لا أحد من اللبنانيين أو العرب لديه الرغبة لرميهم لا في البحر ولا في الرمل)، بل تطرح السؤال الخطير: ما العمل مع هذه «الدولة المارقة» التي عقد معها العرب اتفاقيات سلام وما شابه؟
ربما اعطت التكنولوجيا المتفوقة، من الطائرات الحربية العملاقة «أف 35»، إلى الانترنت الخارق وغرف العمليات المجهزة بالذكاء الصناعي نقاط تفوق أكيدة لدولة الاحتلال، على كل الجبهات المقاتلة ضدها، سواءٌ في لبنان أو اليمن، فضلاً عن غزة والضفة الغربية، امتداداً إلى مقرّ محور الممانعة إيران والدول الأخرى المساندة لحرب «طوفان الأقصى»، لكن المواجهة لا يتعين أن تقتصر على تقديم الأرواح قرابين.. ولشجاعة غير المرجحة بالرأي والبصيرة، تأخذ أصحابها إلى التهلكة».
تأملت في «منحة الموت» وشرف التضحيات (مع الإقرار والتسليم بأن الموت حق)، وذهبت أكثر إلى دراما الجغرافيا، سواءٌ بالنسبة إلى لبنان أو حتى الفلسطينيين، ودورها في توليد النكبات والضربات والموت والقتل على نحو ما يشاهد اليوم في غزة والضفة وجنوب لبنان امتداداً إلى البقاع وقراه..
اليوم، ينقل الرئيس نجيب ميقاتي غضب لبنان وتنديده باستهداف المسعفين والطواقم الطبية والانقاذية، بدءاً من «مجزرة فرون» بحق الدفاع المدني للسفراء الأجانب، ومنهم دول تدعم إسرائيل بالطائرات والقذائف والمدمرات، فضلاً عن المال والدعم في المحافل الدولية، ومؤسسات الأمم المتحدة وصولاً إلى مجلس الأمن..
تأملت في «محنة الموت» ومأساة الجغرافيا ولعنتها، ولكن لا بدَّ من التسليم بقدر الموت ولعنة الجغرافيا، مع إيقاظ حقيقي للوعي والمراجعة لما يجري، للحدّ من الخسائر وترشيد المواجهة، والبحث عن مخارج تمنع العدو من تحقيق مآربه، وتفتح الباب أمام المواجهات من نوع آخر!