أن يلتزم رئيس وزراء العدوّ بنيامين نتنياهو بتغيير الوضع القائم في الشمال وعودة سكان المستوطنات الذين هجَّرهم حزب الله منها أمر مفهوم ومكرّر، لكن أن يرى بأن الطريق الى تحقيق ذلك بتغيير ميزان القوى في الشمال، فهذا يعني إقراراً رسمياً بأن معادلة القوة في مواجهة حزب الله، في غير مصلحة إسرائيل حتى الآن، وأنّ أيّ تسوية مفترضة ستكون انعكاساً لهذه المعادلة، ولن تكون بالتالي في مصلحة إسرائيل. كذلك يؤشر هذا الموقف إلى ما هو أبعد، وهو أن كل الخيارات العملياتية التي نفذها العدو خلال 11 شهراً، لم تنجح في إحداث تعديل في المعادلة الحاكمة للميدان يعيد الأمن إلى منطقة خط المواجهة مع لبنان.وتنبغي الإشارة إلى أن هذا الموقف لم يقتصر على جلسة الحكومة، بل أتى خلال جلسة نقاش أمني – استراتيجي، الخميس الماضي، بمشاركة قادة الأجهزة الأمنية، ووزراء: الأمن يوآف غالانت والخارجية يسرائيل كاتس والمالية بتسلئيل سموتريتش (الوزير الثاني في وزارة الأمن) والشؤون الاستراتيجية رون دريمر، قبل جلسة الحكومة التي أعقبت سقوط الصاروخ اليمني في منطقة تل أبيب.
عَكَسَ النقاش الذي أجرته القيادتان السياسية والأمنية حقيقة أن ما آلت إليه التطورات الميدانية والسياسية في لبنان وغزة، فرض على مؤسسة القرار بلورة سياسة عملياتية بديلة في ضوء الفشل في الفصل بين جبهتَي لبنان وغزة، وفرض وقائع يطمح إليها العدوّ في جنوب الليطاني. وأتى هذا النقاش أيضاً بعد جلسة تشاور بين الطرفين الأميركي والإسرائيلي حول سيناريوات مستقبل الوضع في جبهة لبنان في ضوء فرضيتَي التوصل الى اتفاق في غزة وعدمه. ومن الواضح أن زيارة المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين للمنطقة تندرج في الإطار نفسه. الخلاصة الأبلغ دلالة أن هذه النقاشات تكشف عن اقتناع تشكّل لدى قيادة العدوّ بضرورة اتخاذ قرارات مفصلية في ظل استمرار ارتباط جبهتي لبنان وغزة.
أمام هذا المشهد على طاولة القرار في تل أبيب، سيكون على نتنياهو اتخاذ أحد قرارَين: إما التوصل الى اتفاق في غزة، أو الذهاب الى خيارات بديلة عن تلك المعتمدة على الحدود مع لبنان. وفيما يبدو واضحاً أن قادة العدو يدركون بأن فرص التوصل الى تسوية على جبهة لبنان بمعزل عن غزة تتضاءل، تكثفت الرسائل بأن إسرائيل تتجه إلى رفع مستوى الضغط على حزب الله وتوسيع عملياتها في لبنان.
أمام هذه الخيارات والتداخل القائم بين مجموعة عناوين وساحات، غزة ولبنان والبيئة الإقليمية، يحضر الموقف الأميركي المعني بأيّ قرار إسرائيلي انطلاقاً من تقديره لتداعيات أيّ مواجهة على إسرائيل والمنطقة والمصالح الأميركية. ولا تخفي واشنطن أنها تتشارك مع تل أبيب التقديرات ودراسة الخيارات على المستويين السياسي والعسكري. ولذلك أوضح البيت الأبيض أن هدف زيارة هوكشتين هو منع التصعيد على جبهة لبنان. ويشي ذلك بأن واشنطن تدرك تعذّر فرض وقف النار على جبهة لبنان بمعزل عن جبهة غزة، وتعذّر قدرة إسرائيل على فرض وقائع تطمح إليها في جنوب الليطاني. لذلك كان التحذير الأميركي من أن تصعيد القتال على جبهة لبنان يمكن أن يؤدي إلى «عواقب كارثية ونتائج غير متوقعة».
تهديد نتنياهو بتغيير ميزان القوى إقرار بأن معادلة القوة في غير مصلحة إسرائيل حتى الآن
وأظهرت مواقف منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي مرتكزات المخاوف الأميركية من سيناريو التصعيد العسكري. إذ اعتبر أنه «لا يوجد شيء اسمه حرب متحكّم بها. إنها ليست لعبة». وبذلك يتضح أن هذا الخيار تمّت مناقشته، وخلص الى أن أيّ حرب ستتدحرج الى حرب واسعة وإقليمية. وتكتمل هذه الخلاصة بدعوة كيربي الى «إدراك مخاطر» التصعيد في مواجهة حزب الله لأنه «في مثل هذا السيناريو، قد يُقتل العديد من الإسرائيليين، وقد لا يكون لدى الكثيرين منازل للعودة إليها»، في إشارة صريحة الى أن إسرائيل لن تحقق هدف الحرب أو التصعيد. كذلك، أظهر موقف كيربي أن التقدير تناول ما هو أبعد من ذلك، عندما رفض «فكرة أننا يمكننا الذهاب إلى حرب والقضاء على كل صواريخ حزب الله، وكل شيء سيكون على ما يرام»، مؤكداً أن «الأمر ليس بهذه البساطة. لا يوجد حل سحري. لا يمكن القضاء على الجانب الآخر».
لعل المفهوم الأبرز الذي تناوله كيربي ويختصر الكثير من المخاوف، تجسّد في خشيته من أن ينتهي الأمر بإسرائيل في حال شنّت حرباً ضد حزب الله «بدفع ثمن باهظ من دون أن تحقق أهدافها». وهي المعادلة الأشد وطأة على مؤسسات القرار كونها تتمحور حول الكلفة والجدوى التي في ضوئها يتم اتخاذ القرارات. فما يردع طرفاً ما عن أيّ خيار هو عندما يخلص الى أن هذا الخيار لن يحقق الأهداف المؤملة منه وتترتّب عليه أثمان باهظة، وهو ما حذّر منه البيت الأبيض. لكن تبقى إشكالية أن الإسرائيلي يفكر بالاستناد الى رهانات مغايرة، منها أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن تل أبيب، وأن كل الخيارات المطروحة تنطوي على مخاطر، وليس أمام إسرائيل سوى محاولة اختيار السيناريو الأقل خطورة. وفي هذه المسألة، تتعدّد الآراء بين المؤسسات وداخلها.