Site icon IMLebanon

كلام لا يعلو على صوت المعركة

 

 

كلام كثير يقال عن ملابسات الإنزلاق إلى هذه الحرب المدمرة،  والمبررات التي دفعت حزب لله إلى مهاوي «حرب الإسناد»، وسوء تقدير معطيات اللحظة، والتغافل عن نوايا العدو، المبيتة منذ عام ٢٠٠٦، للثأر وتصفية الحساب مع الحزب وقياداته، التي باتت تثير الرعب في أوساط الإسرائيليين.

ليست ساعة للنقاش الآن. والوضع المتدحرج إنهياراً في البلد لا يسمح بطرح الملفات الخلافية المعقدة، بدءاً من السياسة الدفاعية، وقرار الحرب والسلم، وصولاً إلى السياسة الخارجية، التي خرجت في العقدين الأخيرين عن القاعدة الذهبية التي حفظت البلد الصغير، وحافظت على مكانته بين الدول الكبيرة، وهي الإبتعاد عن سياسة المحاور، والتمسك بتحييد وطن الأرز عن الخوض في خلافات الآخرين، بل الإصرار دائماً على القيام بدور الوسيط الساعي لرأب الصدع بين الأشقاء، والحفاظ على روح التضامن العربي، في إطار جامعة الدول العربية، التي كان لبنان أحد مؤسسيها، ويوم كانت الجامعة هي الإطار الأوسع لمعالجة الخلافات العربية ــ العربية.

 

الصيغة اللبنانية المتعددة حضارياً وطائفياً وثقافياً هي العدو الأساس للكيان الصهيوني العنصري، الذي يرفض قبول الآخر، والعيش مع ثقافة الاخر. لذلك عملت الإستخبارات الإسرائيلية على إثارة الفتن والقلاقل بين اللبنانيين منذ أيام بن غوريون أواسط الخمسينات من القرن الماضي. وإستمرت على هذا المنوال حتى يومنا هذا.

لا يستطيع أحد أن يُزايد على لبنان في الدفاع عن القضية الفلسطينية، سواء في المحافل الديبلوماسية العالمية، وخاصة في الأمم المتحدة، منذ الأربعينات وحتى تكليف القمة العربية رئيس جمهورية لبنان المسيحي الرئيس سليمان فرنجية إلقاء كلمة العرب في الجمعية العمومية للأمم المتحدة أواسط السبعينات.

 

وتضحيات لبنان في الحروب مع العدو الإسرائيلي، يشهد عليها تاريخ الانتكاسات والخراب الذي تعرض له لبنان، منذ عام ١٩٦٩، حيث فتح أراضيه للفصائل الفلسطينية، وخاصة في منطقة العرقوب (فتح لاند)، والإحتلال الصهيوني للجنوب عام ١٩٧٨، ثم الحرب الإسرائيلية الأولى والإجتياح الشاروني عام ١٩٨٢ الذي وصل إلى بيروت، ثم سلسلة الإعتداءات وأبرزها عناقيد الغضب عام ١٩٩٨، والحرب الإسرائيلية الثانية عام ٢٠٠٦. ثم هذه الحرب الثالثة بكل ما تحمله من شؤم ودمار على لبنان واللبنانيين.

مشكلة بعض اللبنانيين مع القضية الفلسطينية، أن بعضهم، ومعظمهم من المسيحيين، يبالغون في الإبتعاد عن مقاربة المسآلة تأييداً أو حتى تعاطفاً، فيما البعض الآخر وأكثريتهم من المسلمين يذهبون بعيداً في حماسهم ودفاعهم عن فلسطين العربية إلى حد الإنتحار أحيانا.

بالأمس وقف أهل السنّة والجماعة مع إتفاق القاهرة وفتحوا القلوب والبيوت والحدود أمام الفلسطينيين، فكانت النتائج إنهيار الدولة داخلياً، وإهتزاز للصيغة وطنياً، وتجاوز لكل صلاحيات وقوانين السلطة الداخلية. وإنتهت تلك المرحلة بخروج منظمة التحرير وجيوشها من لبنان عام ١٩٨٢.

بعد الخروج الفلسطيني من لبنان، وتراجع الاهتمام الفلسطيني والعربي بالعمل المقاوم للإحتلال، دخلت الجمهورية الإسلامية الوليدة في إيران الميدان الفلسطيني بقوة، وأسست تنظيمات مسلحة لمقارعة العدو الصهيوني، وأبرزها طبعاً حزب لله في لبنان عام ١٩٨٢، حيث كان الإحتلال الصهيوني ما زال جاثماً على صدور اللبنانيين، وخاصة في مناطق الجنوب  حيث الأكثرية  من الطائفة الشيعية، التي ترعرع شبابها على إيقاع المقاومة التي رفع رايتها الإمام موسى الصدر، وكانت الأرض تغلي بالحماس للانخراط في المقاومة ضد العدو الصهيوني.

إستطاع حزب لله أن يحتل مكانة بارزة في أوساط الطائفة الشيعية، بحكم الإمكانيات الضخمة  التي وفّرتها إيران له. ومع تراكم القوة الذي كان الحزب يحققه، كانت الدولة تخسر المزيد من هيبتها وسلطتها الشرعية، بنتيجة الخلافات المزمنة بين الأطراف السياسية، ثم بين أهل الحكم أنفسهم.

هذا الشعور المتزايد بفائض القوة، هيمن على رؤية قيادة الحزب وقراراتها، وكان الدافع للتفرد بقرارات كبيرة وتهم كل اللبنانيين، وفي مقدمتها قرار الحرب والسلم، فضلاًعن إستخدام «الفيتو» بقوة ضد أي قرار أو إستحقاق لا يتماشى مع خيارات الحزب، وآخرها اليوم الإستحقاق الرئاسي.

ومما زاد الأمور تعقيداً إلتصاق الحزب بالسياسة الإيرانية الخارجية، وإشهار العداء للدول العربية، إلى المشاركة في الحرب السورية، والحرب اليمنية، والإضطرابات في العراق، دون الأخذ بعين الإعتبار الحد الأدنى من مصالح الوطن وأهله في خضم تلك الصراعات المحتدمة.

هذا الكلام لا يعلو على صوت المعركة التي يخوضها لبنان، كل لبنان، وكلٍ من موقعه، لأن الأهم الآن هو الخروج من آتون هذه الحرب الإجرامية، المدمرة للبشر والحجر، والحفاظ على أواصر الوحدة والتلاحم والتراحم بين اللبنانيين لنقوى على أخطر وأكبر أزمة إجتماعية عرفها البلد بعد هذا الحجم غير المسبوق من النزوح والدمار.

أما بقية هذا الكلام فتبقى بعد وقف إطلاق النار، وهدوء المشاعر المنفعلة، وعودة الحكمة والتبصر، في تناول قضايانا الشائكة، لنستطيع إعادة بناء الدولة والنهوض مجدداً.