لم تثر مفاوضات الهدنة في غزة ارتياحاً حيال احتمالات الوضع اللبناني. ففي مقابل تحذير خارجي مستجدّ عن احتمالات خطرة للتصعيد الجنوبي، تصبح الهدنة اختباراً لما يمكن أن ترسو عليه اتجاهات إسرائيل في لبنان والضفة الغربية
قبل سريان مفعول الهدنة في غزة، وتزامناً مع سير المفاوضات حولها، كان الكلام الغربي يتناول الوضع اللبناني لناحية الضغوط التي تُمارس لمنع توسّع رقعة الحرب نحو لبنان. مع تقدّم المفاوضات بدت في الساعات الأخيرة ملامح أكثر جدية، تعبّر عن ارتفاع منسوب التحذيرات من أن الوضع الجنوبي قد لا يبقى في الإطار المعمول به حتى الآن منذ 7 تشرين الأول، وذلك ربطاً بما يمكن توقّعه من موقف إسرائيل من الجنوب ومن الضفة الغربية، بخلاف الارتياح لمسار التهدئة الميدانية في غزة.ثمة نوعان من مراقبة ما يحصل جنوباً، وكلاهما على تماس مع رسائل أميركية ودولية مباشرة. منذ اندلاع الأحداث، جرى تبليغ لبنان رسمياً، وعدد من القيادات المعنية، بأن معركة غزة طويلة، وعلى لبنان التحسب لنتائجها ليس العسكرية فقط، وإنما أيضاً ما يعقبها من مفاوضات لترتيب ما بعد غزة. وانتقلت التبليغات إلى مستوى آخر من تأكيد الاهتمام بمنع تفلّت الوضع، استناداً إلى سعي أميركي لضبط التصعيد، وهو ما عبّر عنه تكراراً الموفدون الأميركيون إلى بيروت والمنطقة. وترافق ذلك مع تعبير عن الاطمئنان بأن لا رغبة لدى الأميركيين بتوسيع إطار الحرب نحو لبنان، وإدخال حزب الله في حرب شاملة. وهذان العاملان كانا كفيليْن بإبقاء الوضع مضبوطاً بالقدر الذي لا يسمح بدخول المنطقة في حرب طويلة الأمد. لكن، في المقابل، لم يخف أي من التحذيرات القلق من رغبة إسرائيل في امتداد الحرب، وفي إبقاء جبهة الجنوب اللبناني مشتعلة. إلا أن مستوى العمليات المتبادلة التي حصلت منذ أكثر من شهر أشار إلى أن هناك توازناً ما بقي قائماً، لكنه بات مهدداً أكثر من الآن وصاعداً بحسب ما صار متداولاً خارجياً وتبلّغته أوساط لبنانية.
اتفاق الهدنة، يعني في مكان ما أيضاً أنه اختبار إيراني لإسرائيل في ما تضمره تجاه حزب الله، والأمر نفسه ينسحب على الضفة الغربية التي لا يمكن تجاوز رغبة إسرائيل في الإمساك بورقتها، وهو ما يثير مخاوف الأردن على نطاق واسع. لبنانياً إذاً، تصبح مرحلة الهدنة فترة ولو قصيرة فرصة لجسّ النبض حيال ما قد تكون إسرائيل في صدده، ولا سيما أن ما نُقل غربياً إلى لبنان لا يزال يتمحور حول ارتباط أي مفاوضات، سواء المتعلقة بالهدنة الظرفية أو ما بعدها من تصور حيال مستقبل غزة، بإصرار إسرائيلي على عدم التسليم بستاتيكو جنوبي قائم حالياً منذ 7 تشرين الأول. لذا، دخل لبنان في صلب المفاوضات الجارية حول العودة إلى تطبيق شامل للقرار الدولي 1701 من جهة، ورسم خريطة مستقبلية لتطبيع الوضع جنوباً. وإذا كانت إسرائيل تصرّ على السير في هذا المنحى، فهذا يعني أن انعكاس الهدنة على لبنان، قد لا يكون مرتبطاً فحسب بمهلة الأيام القليلة، لأن ما بدأ الكلام عنه حول مستقبل غزة وتمديد الهدنة، ووضع النازحين، يتعدّى المعالجات الإنسانية واللوجيستية ليطرح مصير غزة والضفة ولبنان معهما. وهنا يصبح الدور الإيراني أكثر فاعلية في مفاوضات عُمان وجولات وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، والتي عبّرت عن اتجاه ضبط الوضع وعدم الانجرار وراء استدراج إسرائيلي نحو مستوى ثان من الضغط العسكري المتبادل، في انتظار أن تظهر حقيقة ما تريده في جولات التفاوض بما هو أبعد مما جرى حتى الآن في قطر.
لم تخف التحذيرات القلق من رغبة اسرائيل في امتداد الحرب إلى لبنان
لذا استعادت واشنطن حضورها الفاعل في إدارة التفاوض حول لبنان. والدور الأميركي الحالي يبرز بقوة في اتجاه ضاغط لوقف مسار متفجّر، لكنه في الوقت نفسه بدأ يضغط كي يتكيّف لبنان مع احتمالات ما بعد غزة وإعادة الاعتبار إلى وضع الجنوب بما كان عليه بعد حرب تموز، لا بما أصبح عليه حالياً. وهذا ما تتشارك به مع الأمم المتحدة، وإن بدورها المحدود. كما تسعى فرنسا، بمستوى أقل تأثيراً، إلى العودة مجدداً إلى الوضع اللبناني، رغم أنها فقدت فاعليتها ولا تتمتع بالحضور نفسه، ولا سيما بعد العشوائية التي طبعت إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون لملف حرب غزة بين تأييد مطلق لإسرائيل والعمل على حشد تحالف دولي ضد حماس لم يُكتب له أن يبصر النور، ومن ثم عقد مؤتمر لمساعدة فلسطينيي غزة وما أحدثه ذلك من إرباك داخل الدبلوماسية الفرنسية، ما ينعكس حكماً على تعثّر تواصلها مع أطراف النزاع المعنيين بملف لبنان. وفي المقابل، يُسجل حالياً انحسار أي وساطة عربية مكتملة العناصر تجاه لبنان في ظل انشغال القنوات المعتادة، كمصر أو الأردن، بتحييد حرب غزة عن أراضيهما، وقطر بالتحضير مع مصر لهدنة غزة، وتراجع الدور العربي – الخليجي تحت وطأة تصاعد النفوذ الإيراني في القضية الفلسطينية، وضغط ملف التطبيع مع إسرائيل. وعدا التواصل السعودي – الإيراني الذي لم ينتقل إلى مرتبة أكثر فاعلية، لا يبدو إلى الآن أن ثمة راعياً للتفاوض حول لبنان واحتمال تفلّت الوضع الجنوبي، غير واشنطن وطهران. وهما الآن تنتظران على مفترق طرق، لأن ما بعد غزة يرسم خريطة المنطقة بما يتعدّى الساحات المشتركة وحدَها.