تعتقد مراجع ديبلوماسية عليمة، أنّ الإتصالات في شأن الجنوب تجاوزت بعض ما قالت به “قواعد الاشتباك” غير المعلن عنها، بدلاً مما قال به القرار 1701 المخروق من طرفي النزاع. وفي انتظار الحصيلة لبناء “قواعد جديدة”، من الصعب الكشف عنها قبل وقف الحرب في غزة، فلا حل قبل ذلك. وإلى تلك المرحلة، فالمخاوف قائمة من أي خطأ يمكن ان يؤخّر فكفكة العِقَد الاخيرة. فكيف ولماذا؟
لم يتمكن المراقبون من إحصاء مجموعة السيناريوهات التي تسرّبت في الايام الاخيرة، وتحاكي الوضع على الحدود الجنوبية، حيث المواجهة بين “حزب الله” والجيش الاسرائيلي المنتشر على طول الجبهة الممتدة لأكثر من 100 كيلومتر مع الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها، وبعمق يراوح بين 3 و6 كيلومترات، ما عدا الخروق التي تجاوزت الـ20 كيلومتراً في بعض المناوشات، قياساً على حجم ما قالت به قواعد الاشتباك التي تتحدث عن “مدني مقابل مدني وعسكري مقابل عسكري”، وصولاً الى تلك التي تحاكي تجاوزاً للخطوط الحمر الغامضة التي لم يتمكن بعض المراقبين من فهمها نظراً الى الغموض الذي أحاط ببعض العمليات العسكرية المحدودة، التي تجاوزت ما هو متعارف عليه من مناوشات.
وقبل الدخول في بعض السيناريوهات المتداولة، تجدر الإشارة الى بعض العمليات العسكرية التي لم يتوافر لها تفسير واضح بعد، فما زالت تخضع للتدقيق في دوائر أمنية واستخبارية عدة، لكشف خفاياها، طالما انّ طرفي النزاع لم يتبنيا اياً منها. وإن عاد الحديث الى ضرورة انتظار ما يمكن أن يأتي به الميدان من تطورات، لا يمكن تجاهل الغارة الاسرائيلية التي ادّت الى استشهاد خمسة من قياديي الحزب، ومن بينهم نجل النائب محمد رعد، ولم تتعاط قيادة المقاومة معها كما كان متوقعاً من ردّة فعل استثنائية. ولذلك، وإن قالت أوساطها إنّه لا تمييز بين الجهاديين بالنسبة الى نسبهم العائلي، فكلهم في المواجهة سواسية، هناك من بين العارفين من وضع العملية ضمن الأسرار المتبادلة بين طرفي النزاع، وهي كثيرة، وهو ما يترجمه العارفون بالقول انّه سبق للحزب أن تجاوز الخطوط الحمر المتبادلة في عملية سبقت الغارة بيوم، أدّت الى إيلام الاسرائيليين الذين ردّوا بمثل هذه العملية، من دون ان يفصح اي منهما عن الظروف التي رافقتها وادّت إليها.
وبعيداً من هذه الملاحظات التي لا بدّ منها عند إجراء القراءة الدقيقة لما يجري في الجنوب وخلفياته، فإنّ المحافل الديبلوماسية تحصي عدداً من السيناريوهات المتداولة، بما يعني الوضع الجنوبي، بالإستناد الى مجموعة الاقتراحات المتبادلة بين لبنان واسرائيل عبر اكثر من وسيط، وفي مقدّمهم الموفد الرئاسي الاميركي الذي أنجز التفاهم بشأن ترسيم الحدود البحرية أموس هوكستين، قبل أن يُكلّف حديثاً عملية “إظهار الحدود” البرية سعياً الى تصحيح الوضع في النقاط الـ 13 المختلف حولها على طول “الخط الأزرق” ليتطابق عملياً و”الحدود الدولية” المعترف بها مع الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1923. وهي مهمّة تهدف الى وقف الحديث عن هذا “الخط الوهمي”، طالما انّه ما زال يُعتبر حتى اليوم “خطاً للانسحاب” الذي اعقب تنفيذ القرار 242 في 25 أيار من العام 2000، وليس “خطاً حدودياً”، بهدف نسيانه وسحبه من التداول إيذاناً بالانتقال الى المرحلة الطبيعية بين اي دولتين متجاورتين لهما حدود معترف بها من الجانبين وموثقة لدى الأمم المتحدة.
ولا يغفل المراقبون الجهود الفرنسية الإضافية التي يقوم بها وفد فرنسي ديبلوماسي وأمني، قام اخيراً بجولات مكوكية بين بيروت وتل أبيب، للحديث عن مقترحات فرنسية تحاكي مستقبل الوضع على الحدود اللبنانية وإنهاء التوتر عليها، من باب المساعي المبذولة لتطبيق القرار 1701. وهو وفد يجمع كلاً من المدير العام للشؤون السياسية والأمنية في وزارة أوروبا والشؤون الخارجية فريدريك موندولي ومعه ضباط فرنسيون متخصّصون بالشؤون الحدودية، الذي زار بيروت بعد أيام من زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان، والمهمّة السرّية لمدير المخابرات الفرنسية برنارد ايمييه.
وفي الوقت الذي تعدّدت السيناريوهات التي ارتبطت بمهمّتي هوكشتاين وموندولي، نفت المراجع العليمة ما تسرّب من مهمّتهما حتى هذه اللحظة. فالقول انّ هوكشتاين أبلغ الى نائب رئيس مجلس النواب الياس بوصعب في لقائهما الأخير في دبي، أنّ عملية إظهار الحدود بين لبنان واسرائيل وتسوية الإشكالات على النقاط الـ 13 المختلف حولها، باتت ممكنة، لم تؤكّد اي مصادر انّ المحادثات ادّت الى هذه المرحلة المتقدّمة. وإن قيل ايضاً انّ مهمّة الوفد الفرنسي انتهت الى تفاهم على صيغة تنفيذية تفرض نشر مراقبين فرنسيين على الجانب اللبناني من الحدود، ومراقبين اميركيين على الجانب المحتل من الأراضي الفلسطينية تعرّضت للمصير عينه. لا بل فإنّ نفيها جاء من اكثر من جهة لبنانية وأميركية واسرائيلية، واعتبرت فكرة نُسبت الى مرجع مجهول الهوية يتقن السيناريوهات الوهمية.
وبناءً على ما تقدّم من روايات، فإنّ المراجع الديبلوماسية العليمة تؤكّد أنّ ما يجري من مفاوضات في الخفاء وبعيداً من الإعلام لا أساس له من الصحة، وانّ من الافضل انتظار ما يمكن ان تنتهي إليه المساعي المبذولة على اكثر من مستوى. واعتبرت أنّ الوقت غير ملائم للكشف عمّا يُتداول به من أفكار ومقترحات، قد يكون من بينها ما يمكن التوصل اليه، فإنّ اياً من سعاة الخير يدركون انّه وفي ظل غياب من يقرّر عن الجانب اللبناني الرسمي والشرعي، وتلهّي المسؤولين في السلطتين التشريعية والتنفيذية بـ “الحرتقات الداخلية”، فإنّ قيادة “حزب الله” لا تستسيغ البحث في أي منها، وقد لا يكون لها اي رأي نهائي فيها قبل التوصل الى تسوية خاصة بقطاع غزة، تثبت وقفاً للنار، فيه مخافة القول انّ هناك تفرّداً بـ “الجبهة اللبنانية” المساندة لـ “المقاومة الفلسطينية”، وقد تنازلت عن هذا الدور. كذلك لا يكفي في المقابل القول انّ اسرائيل إن ارادت معالجة الجانب الخاص بالجبهة الشمالية كافٍ للتوصل الى اي حل نهائي في شأنها. فيما المنطق يقول إنّ الترابط بين الجبهتين لم يؤد الى اي تفاهم جانبي حتى اليوم.
وقياساً على ما تقدّم، تنصح المراجع الديبلوماسية بالتريث في الحديث عن حلول شاملة ومنطقية تضع حداً للحرب على الجبهتين الشمالية والداخلية الاسرائيلية، لأنّها من الخطوات المستحيلة حتى اليوم. وهي تنصح برصد السباق القائم بين المسارين الديبلوماسي والسياسي البطيء والمتعثر لمصلحة المسار العسكري الدامي، الى ان تحين الساعة التي تكتفي بها الآلة العسكرية بما يمكن أن تحقّقه، بما يسمح للجانب الاميركي بالتوصل الى تثبيت وقف للنار وبدء مسار الحل السياسي، وهو أمر ما زال في علم الغيب ومن باب أمنيات ورغبات اطراف عدة، عجزت حتى اللحظة عن تحقيق ما يمكن تطبيقه من حلول ومخارج.